الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يصلي بعد الجمعة ست ركعات فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين وروى أبو هريرة أربعا وروى علي ، وعبد الله ابن عباس رضي الله عنهم ستا والكل صحيح في أحوال مختلفة والأكمل أفضل .

التالي السابق


(ثم يصلي بعد الجمعة) ؛ أي: بعد الفراغ من صلاتها (ست ركعات) ، كذا في القوت: (فقد روى ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعد الجمعة ركعتين) . رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه كلهم من طريق نافع عنه، ولفظ البخاري، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين، وعند أبي داود في بعض طرقه، وابن حبان من طريق أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك، ورواه الليث، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فيسجد سجدتين في بيته، ثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. رواه مسلم.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رفعه: كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك، ورواه الليث، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فيسجد سجدتين في بيته، ثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. رواه مسلم.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رفعه: كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، ومن طريق حميد بن هلال، عن عمران بن حصين أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين.

وأخرج عن أبي بكر بن عياش، عن منصور، عن إبراهيم قال: صل بعد الجمعة ركعتين، ثم صل بعدهما ما شئت، وعن غندر، عن عمران، عن أبي مجلز قال: إذا سلم الإمام صلى ركعتين، وإذا رجع صلى ركعتين، وقال الترمذي: في جامعه بعد أن ذكر حديث ابن عمر: كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي، وأحمد. اهـ .

ونقل النووي في الروضة، عن ابن القاص، وآخرين من أنه يحصل الاستحباب بركعتين نص عليه في الأم، وسيأتي القول باستحباب الأربعة، والنصان محمولان على الأكمل والأقل، صرح به صاحب التهذيب، ويوافقه قول النووي في التحقيق: إنها في ذلك كالظهر (وروى أبو هريرة) -رضي الله عنه- أنه -صلى

[ ص: 274 ] عليه وسلم - كان يصلي (أربعا)
، أي: بعد الجمعة لا يفصل بينهن بتسليم. أخرجه مسلم، وأبو بكر بن أبي شيبة، والترمذي، والطحاوي من طريق سهيل، عن أبيه عنه بلفظ: من كان مصليا بعد الجمعة، فليصل أربعا، وقد روي ذلك عن ابن مسعود، وغيره من التابعين. أخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن حبيب قال: كان عبد الله يصلي بعد الجمعة أربعا، ومن طريق أبي عبيدة، عن عبد الله أنه كان يصلي بعد الجمعة أربعا، ومن طريق العلاء بن المسيب، عن أبيه قال: كان عبد الله يصلي بعد الجمعة أربعا، ومن طريق حماد، عن إبراهيم، عن علقمة أنه كان يصلي أربعا بعد الجمعة لا يفصل بينهم، ومن طريق عن أبي حصين قال: رأيت الأسود بن يزيد صلى بعد الجمعة أربعا. وعن حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يصلون بعدها أربعا، وعن جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن حماد قال: كان يستحب في الأربع التي بعد الجمعة أن لا يسلم بينهن، وعن وكيع، عن مسعر، عن أبي بكر بن عمر بن عتبة، عن عبد الرحمن بن عبد الله أنه كان يصلي بعد الجمعة أربعا، وقال الترمذي في جامعه بعد روايته حديث أبي هريرة، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. اهـ .

قلت: وهو قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والحسن بن حيي، وابن المبارك، وقال: إسحاق إن صلى يوم الجمعة في المسجد صلى أربعا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين، ونقل النووي في الروضة، عن ابن القاص، وآخرين استحباب أربع بعدها، وقال: نص عليه في الأم. اهـ. وهو رواية عن أحمد (وروى علي، وعبد الله بن عباس) -رضي الله عنهم- أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي (ستا) ؛ أي: بعد الجمعة؛ أي: بتقديم ركعتين على الأربع ركعات. أخرج أبو داود من حديث ابن عمر: أنه كان بمكة، فصلى الجمعة ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، ولم يصل في المسجد، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، فقال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك، وقال ابن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة صلى بعدها ست ركعات؛ ركعتين، ثم أربعا، وقول المصنف، وروى علي، وابن عباس... إلخ. أما قول علي، فأخرجه البيهقي موقوفا عليه. قاله العراقي.

قلت: هو في المصنف لابن أبي شيبة، عن هشيم، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: قدم علينا ابن مسعود، فكان يأمرنا أن نصلي بعد الجمعة أربعا، فلما قدم علينا علي أمرنا أن نصلي ستا، فأخذنا بقول علي، وتركنا قول عبد الله. قال: كان يصلي ركعتين، ثم أربعا، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن حبيب قال: كان عبد الله يصلي أربعا، فلما قدم علي صلى ستا؛ ركعتين، وأربعا، وروي ذلك أيضا عن أبي موسى الأشعري، وغيره .

قال ابن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه أنه كان يصلي بعد الجمعة ست ركعات، وحدثنا وكيع عن زكريا، عن محمد بن المنتشر، عن مسروق قال: كان يصلي بعد الجمعة ستا؛ ركعتين، وأربعا، وقول عطاء، والثوري، وأبي يوسف، ورواية عن أبي حنيفة، وأحمد، والشافعي على التخيير منهما نقله الخوارزمي من الشافعية في الكافي (والكل صحيح) ثبت في الأخبار مروي عن الصحابة قولا، وعملا (في أحوال مختلفة) يشير إلى ما تقدم من حديث ابن عمر: إنه كان إذا كان بمكة يصلي ستا، وإذا كان بالمدينة يصلي ركعتين، وعزاه إلى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- (والأكمل أفضل) ، وهو ست ركعات، ورأيت بخط الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن محمد بن علي الحريري الشافعي ابن خال القطب الخيضري -رحمهما الله تعالى-، وقد نسب ابن الصلاح المصنف إلى الشذوذ في ذكر الست ركعات، وأجاب عنه النووي بما رواه الشافعي بإسناده إلى علي -رضي الله عنه- أنه قال: من كان منكم مصليا فليصل بعدها ست ركعات. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وقد حكي نحو هذا، عن أبي موسى، وعطاء، ومجاهد، وحميد بن عبد الرحمن، والثوري، وهو راوية عن أحمد. اهـ .

قلت: قال ابن قدامة في المغني قال أحمد بن حنبل: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين، وإن شاء أربعا، وإن شاء ستا، وتقدم قريبا أنه عن أبي حنيفة، واختارها أبو يوسف، وإليه مال أبو الطحاوي، إلا أن أبا يوسف قال: أحب أن يبدأ بالأربع، ثم يثني بالركعتين؛

[ ص: 275 ] لأنه أبعد أن يكون قد صلى بعد الجمعة مثلها على ما قد نهي عنها، ثم ساق الطحاوي إلى عمر أنه كان يكره أن يصلي بعد صلاة مثلها؛ فلذلك استحب أبو يوسف أن يقدم الأربع قبل الركعتين؛ لأنهن لسن بمثل ركعتين، وكره أن يقدم الركعتين؛ لأنهما مثل الجمعة .

قلت: وقد ذكر المازري في شرحه أن أمره -صلى الله عليه وسلم- بالأربع لئلا يتوهم من الركعتين أنهما تكملة الركعتين المتقدمتين، فيكون ظهرا، وتبعه في ذلك أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي، وهناك قول آخر أن يصلي بعد الجمعة أربعا يفصل بينهن بسلام روي ذلك عن ابن مسعود، وعلقمة، والنخعي، وهو قول أبي حنيفة، وإسحاق، كذا نقله ابن بطال في شرح البخاري.

قلت: ولعله رواية عن أبي حنيفة، والمشهور من مذهبه ما قدمناه أنهن أربع بسلام واحد، والمشهور من مذهب مالك أنه لا يصلي بعدها في المسجد؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينصرف بعد الجمعة، ولم يركع في المسجد .



(تنبيه) :

قال في القنية: لما ابتلي أهل مرو بإقامة الجمعتين بها مع اختلاف العلماء في جوازها، ففي قول أبي يوسف، والشافعي، ومن تابعهما باطلتان إن وقعتا معا، وإلا فجمعة المسبوقين باطلة أمر أئمتهم بأداء الأربع بعد الجمعة حتما احتياطا، ثم اختلفوا في نيتها، فقيل: ينوي السنة، وقيل: ينوي ظهر يومه، وقيل: ينوي آخر ظهر عليه، وهو الأحسن؛ لأنه إن لم تجز الجمعة، فعليه الظهر، وإن جازت أجزأته الأربع عن ظهر فائت عليه .

قلت: والأحوط أن يقول: نويت آخر ظهر أدركت وقته، ولم أصله بعد لأن ظهر يومه إنما يجب عليه بآخر الوقت في ظاهر المذهب قال مجد الأئمة: واختياري أن يصلي بهذه النية، ثم يصلي أربعا بنية السنية، ثم اختلفوا في القراءة، فقيل: يقرأ الفاتحة، والسورة في الأربع، وقيل: في الأوليين كالظهر، وهو اختياري، وعلى هذا الخلاف فيمن يقضي الصلوات احتياطا. اهـ .

قلت: وعلى هذا درج المتأخرون من أصحابنا، فحينئذ يصلي أربعا بهذه النية، وأربعا بنية السنية، وركعتين بعدها، فيكون المجموع عشر ركعات وأفتى بعضهم بأنه يصلي أيضا أربعا بنية سنة الظهر القبلية، فيكون المجموع اثنتي عشرة ركعة، ولكن عمل الأصحاب على قول أبي يوسف، وبه أفتى مشايخنا .



(تنبيه آخر) :

لم يذكر المصنف سنة الجمعة القبلية، وقد عقد البخاري في صحيحه باب الصلاة بعد الجمعة، وقبلها، وأورد حديث ابن عمر أنه كان ينصرف فيصلي ركعتين، ولم يذكر في الباب الصلاة قبلها، واختلفوا في ذلك، فقيل: المعنى باب حكم ذلك، وهو الفعل بعدها لوروده، والترك قبلها لعدم وروده، فإنه لو وقع ذلك منه لضبط كما ضبطت صلاته بعدها، وكما ضبطت صلاته قبل الظهر، ويحتمل أنه أشار إلى فعل الصلاة قبلها بالقياس على سنة الظهر التي قبلها المذكورة في حديث ابن عمر الذي أورده، وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها، وبالغوا في إنكاره وجعلوه بدعة؛ وذلك لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه، وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم- ؛ لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة، وممن أنكر ذلك وجعله من البدع، والحوادث الإمام أبو شامة، وذهب آخرون إلى أن لها سنة قبلها منهم النووي، فقال في المنهاج: يسن قبلها ما قبل الظهر، ومقتضاه أنه يستحب قبلها أربع، والمؤكد من ذلك ركعتان، ونقل في الروضة، عن ابن العاص، وآخرين استحباب أربع قبلها، ثم قال: ويحصل بركعتين. قال: والعمدة فيه القياس على الظهر، ويستأنس بحديث ابن ماجه في السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي أربعا. قال العراقي: رواه ابن ماجه من رواية بقية بن الوليد، عن بشر بن عبيد، عن حجاج بن أرطاة، عن عطية العوفي، عن ابن عباس. قال النووي: في الخلاصة، وهو حديث باطل اجتمع هؤلاء الأربعة، وهم ضعفاء، وبشر وضاع صاحب أباطيل. قال العراقي في شرح الترمذي: بقية بن الوليد موثق، ولكنه مدلس، وحجاج صدوق. روى له مسلم مقرونا بغيره، وعطية مشاه يحيى بن معين، فقال فيه: صالح، ولكن ضعفهما الجمهور. اهـ .

قلت: والمتن المذكور رواه أبو الحسن الخافي في فوائده بإسناد جيد من طريق أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الطبراني في الأوسط: من شهد منكم الجمعة، فليصل أربعا قبلها، وبعدها أربعا، وفي السند محمد بن عبد الرحمن السهمي، ضعفه البخاري،

[ ص: 276 ] وغيره، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، وعليه عمل الأصحاب، وبوب ابن أبي شيبة في المصنف على الصلاة قبل الجمعة، وأورد فيه عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا، وعن ابن عمر أنه كان يهجر يوم الجمعة فيبطل الصلاة قبل أن يخرج الإمام، وعن إبراهيم النخعي كانوا يصلون قبل الجمعة أربعا، وقال ابن قدامة في المغني: لا أعلم في الصلاة قبل الجمعة إلا حديث ابن ماجه؛ أي: الذي تقدم ذكره، وروى سعيد بن منصور في سننه، عن أبي مسعود مثل رواية ابن أبي شيبة.




الخدمات العلمية