الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويجلس في هذا التشهد على رجله اليسرى كما بين السجدتين .

وفي التشهد الأخير يستكمل الدعاء المأثور بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


(ويجلس في هذا التشهد) يعني الأول، (على رجله اليسرى) مفترشا بها (كما بين السجدتين) اتفاقا، (وفي التشهد الأخير يستكمل الدعاء المأثور) ، يشير إلى ما رواه البخاري في آخر تشهد ابن مسعود : "ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به". وفي رواية: "فليدع بعده بما شاء"، وعند مسلم: "ثم يتخير من المسألة ما شاء"، وفي رواية النسائي عن أبي هريرة: "ثم يدعو لنفسه بما بدا له"، وسنده صحيح، والمراد بالمأثور المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الرافعي من ذلك: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" .

قلت: رواه مسلم من حديث علي، قال الحافظ: لكن عنده من طرق أخرى، وعند أبي داود: "كان يقول ذلك بعد التسليم، ومن ذلك: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال".

قلت: رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "إذا فرغ أحدكم من التشهد فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، والباقي سواء". وهو في البخاري من غير تقييد بالتشهد، زاد النسائي: "ثم يدعو لنفسه بما بدا له"، وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة، "أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو في آخر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، ومن ذلك أيضا: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" .

قلت: متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر، وعن أبي بكر رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: قل: اللهم..." فذكره، قال الحافظ: ولم أر من جعله من قوله صلى الله عليه وسلم ولا من بقية التشهد .

قلت: وكان ابن مسعود يدعو بكلمات منهن: "اللهم إني أسألك من الخير كله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم"، ذكره أصحابنا، ومن ذلك: "اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا، وقلوبنا وأزواجنا، وذريتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها قابليها، وأتمها علينا"، قال الروياني: وأنا أزيد فيه: "اللهم إني ضعيف، فقوني، وذليل فأعزني، اللهم اجعلني على تلاوة كتابك صبورا، وعلى إحسانك شكورا، واجعلني في عيني ذليلا، وفي أعين الناس كبيرا، واجعلني ممن يذكرك ويشكرك ويسبحك بكرة وأصيلا" .

وقال الخطيب في "شرح المنهاج": ومنهم من أوجب الدعاء المذكور في حديث أبي هريرة، وهو الاستعاذة من الأربع، وقد فهم من سياق المصنف أن سنية الدعاء أو استحبابه، إنما يكون في التشهد الأخير (بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) ، أما في الأول فيكره، بل لا يصلي على الآل أيضا على الصحيح، كما سبق، وذكر الصيدلاني أن المستحب للإمام أن يقتصر على التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليخفف على من خلفه، فإن ذلك جعل دعاء دون قدر التشهد، فلا يطول .

وأما المنفرد فلا بأس له بالتطويل، هذا ما ذكره، قال الرافعي : والظاهر الذي نقله الجمهور أنه يستحب للإمام الدعاء كما يستحب لغيره، ثم الأحب أن يكون الدعاء أقل من التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقع عنهما، فإن زاد لم يضر، إلا أن يكون إماما، فيكره التطويل، وقال النووي في "الروضة": إطالة التشهد الأول مكروه، فلو طوله لم تبطل [ ص: 82 ] صلاته، ولم يسجد للسهو سواء أطوله عمدا أم سهوا اهـ .

قلت: خلافا لأصحابنا فإنهم قالوا: لا يزيد في القعدة الأولى على قدر التشهد؛ لما في السنن من حديث ابن مسعود : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين، كأنه على الرضف حتى يقوم، فإن زاد على قدر التشهد -قال بعض المشايخ: إن قال: اللهم صل على محمد ساهيا- يجب عليه سجدة السهو، وروى الحسن عن أبي حنيفة : إن زاد حرفا واحدا فعليه سجدة السهو، وأكثر المشايخ على هذا، واختار صاحب "الخلاصة" الأول، قال البزازي: لأنه أخر ركنا، وبتأخيره يجب سجود السهو، وهذا بإطلاقه يصلح دليلا لمن اختار رواية الحسن بن زياد، فإن مطلق تأخير الركن موجود في زيادة الحرف، ولا يخص ما اختاره هو وصاحب "الخلاصة" من التقييد بقوله: "اللهم صل على محمد"، والصحيح أن قدر زيادة الحرف ونحوه غير معتبر في جنس ما يجب به سجود السهو، وإنما المعتبر مقدار ما يؤدى فيه ركن، وقوله: "اللهم صل على محمد" يشغل من الزمان ما يمكن أن يؤدى فيه ركن بخلاف ما دونه؛ لأنه زمن قليل يعسر الاحتراز عنه، فبهذا يتم مراد البزازي، ويعلم منه أنه لا يشترط التكلم بذلك، بل لو مكث مقدار ما يقول: اللهم صل على محمد، يجب سجود السهو؛ لأنه أخر الركن بمقدار ما يؤدى فيه ركن، سواء صلى على النبي صلى الله عليه وسلم أو سكت؛ حققه شارح "المنية" .



(تنبيه) :

للمصلي أن يدعو بما شاء من أمر الدنيا والآخرة في صلاته، وهو مذهب الشافعي ومالك، ودليلهم ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : "ثم يتخير من الدعاء ما أعجب إليه فيدعو"، وقال أبو حنيفة وأحمد : لا يدعو إلا بما يشبه ألفاظ القرآن، والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو بما يشبه كلام الناس، ومن أصحاب أبي حنيفة من يقول: يجوز الدعاء بما لا يطلب إلا من الله تعالى، وأما إذا دعا بما يمكن أن يطلب من الآدميين بطلت صلاته، وقال أحمد : لو قال: اللهم ارزقني جارية حسناء، ونحو ذلك، فسدت صلاته، ودليلنا صريح قوله صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". رواه مسلم، فحصل التعارض بين الحديثين، فقدمنا المانع على المبيح، ومعنى قول أصحابنا: بما يشبه ألفاظ القرآن، كالذي تقدم في حديث أبي هريرة من الاستعاذة عن الأربع، وكقوله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وغير ذلك، فإن هذه الأدعية تشبه ألفاظ القرآن، وليست بقرآن؛ لأنه لم يقصد بها القراءة، بل الدعاء، حتى جاز الدعاء بها مع الجنابة والحيض، ومعنى قولهم: بما يشبه كلام الناس، أي بما لا يستحيل طلبه منهم، نحو قوله: "اللهم اكسني، اللهم زوجني فلانة، أو أعطني مالا أو متاعا، وما أشبه ذلك، حتى لو قال ذلك في وسط الصلاة قبل القعود الأخير قدر التشهد، فسدت صلاته .

وأما بعد التشهد فلا، ولكن تكون ناقصة لترك السلام الذي هو واجب، وخروجه منها بدونه بمنزلة ما لو تكلم أو عمل عملا آخر منافيا للصلاة، وجعل صاحب "الهداية" قوله: اللهم ارزقني، مما يشبه كلام الناس، وصححه في "الكافي" واعترضه الكمال بن الهمام في "فتح القدير"، ورجح عدم الفساد، وقال: "لأن الرازق في الحقيقة هو الله تعالى، وفي "الخلاصة": ولو قال ارزقني فلانة الأصح أنها تفسد، أو ارزقني الحج الأصح أنها لا تفسد، وفي قوله: اكسني ثوبا، والعن فلانا، واغفر لعمي وخالي تفسد، وفي ارزقني رؤيتك لا تفسد". هذا كله كلام ابن الهمام، على أن الرافعي قد نقل عن إمام الحرمين أنه حكى في "النهاية" عن شيخه أنه كان يتردد في قوله: اللهم ارزقني جارية حسناء صفتها كذا، ويميل إلى المنع منه، وأنه يبطل الصلاة .

وقال ابن المنير : الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة خطر، وذلك أنه قد يلتبس عليه الدنيا الجائزة بالمحظورة، فيدعو بالمحظور فيكون عاصيا متكلما في الصلاة، فتبطل صلاته وهو لا يشعر، ألا ترى أن العامة يلتبس عليها الحق بالباطل؟ فلو حكم حاكم على عامي بحق فظنه باطلا فدعا على الحاكم باطلا بطلت صلاته، وتمييز الحظوظ الجائزة من المحرمة عسر جدا، فالصواب أن لا يدعو بدنياه إلا على تثبت من الجواز، والله أعلم .




الخدمات العلمية