الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه ولكن الضعيف لا بد وأن يتفرق به فكره .

وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره أو يصلي في بيت مظلم أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه ويقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره ويحترز من الصلاة على الشوارع وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة .

التالي السابق


(ومن قويت نيته) وصفت طويته، (وعلت همته) بأن أخدمها معالي الأمور، وشغلها بالمعارف الإلهية وحاطها عن التسفل بالأحوال الدنية (لم يلهه) ، أي: لم يشغله (ما جرى على حواسه) الظاهرة التي منها الأذن والعين، بل والباطنة كذلك، ويكون هو في حال كأنه لم ير وكأنه لم يسمع، (ولكن الضعيف) الإيمان واليقين (لا بد وأن يتفرق به) ، أي: بما يمر على حواسه (فكره) ولا بد له من كسب ما يزيل هذا التفرق، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (وعلاجه) الناجع (قطع هذه الأسباب) ، ومحو علائقها عن القلب، وتلك الأسباب الشاغلة له في الظاهر اثنا عشر، فمنها ما يتعلق بنفس حال المصلي، وهي خمسة: الحقن، والحقب، والخرق، والجوع، والغضب، فهذه مشوشات للمصلي تمنعه من الحضور في الحضرة مطلقا، وقد ذكرها المصنف آنفا، ومنها ما يراعى من خارج، وهي سبعة، أشار المصنف إلى الأول منها بقوله: (بأن يغض بصره) ، أي: المصلي بضم عينه، هكذا فهمه مختصر الكتاب في عين العلم، وتبعه شارحه، وفي ضم العين في الصلاة كلام سبق بعضه، فصاحب القوت والعوارف يأمران بفتحها، وعللا بكونهما تسجدان مع المصلي، فإذا أغمضتا لم تسجدا، وفي المنهاج قيل: يكره تغميض عينيه. قال الشارح: قاله العبدري من أصحابنا، وعلله بكونه من فعل اليهود، قال النووي : وعندي لا يكره، هكذا عبر به في المنهاج، وعبر في الروضة بالمختار إن لم يخف منه ضررا على نفسه لعدم ورود النهي فيه. وقال ابن النقيب: وينبغي أن يخرم في بعض صوره. وأفتى ابن عبد السلام: لأنه إذا كان عدم ذلك يشوش عليه خشوعه أو حضور قلبه مع ربه، فالتغميض أولى من الفتح. اهـ .

والذي يظهر لي أن المراد بغض البصر هنا كفه عن الالتفات يمنة ويسرة، وهو أعم من المعنى الذي ذكروه، وأليق بسياق المصنف لا ضمه كما فهمه صاحب عين العلم على أن أصحابنا أجازوا تغميض العين في النوافل دون الفرائض، وعللوا بأن مبنى النوافل على الرغبة والنشاط والرخصة، فيجوز فيها ما لا يجوز [ ص: 127 ] في الفرائض، ومنهم من قال: يغمضهما حال القيام، ويفتحهما حال السجود، وبهذا يجمع بين القولين، والله أعلم .

وأشار المصنف إلى السبب الثاني بقوله: (أو يصلي في بيت مظلم) لا سراج فيه، فإنه أجمع للحواس، فإن كانت كوة يدخل منها بعض النور لا بأس، والظلام يقصر النظر عن الالتفات ويمنعه عن الانتشار، وكان بعض مشايخنا يختار ذلك، وبعض مشايخنا يكره الصلاة في البيت المظلم ويقول: إنه يدخل الرعب في القلب فيشتغل به المصلي عن الخشوع، والحق أن هذا مختلف باختلاف المصلين وباختلاف الأحوال، فمن وجد في نفسه وحشة من الظلام تمنعه عن الخشوع، فلا بأس بأن يشعل سراجا، ويكون بعيدا منه، وأشار إلى السبب الثالث بقوله: (أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه) ، أعم من أن يكون سلاحا أو ثوبا أو كتابا أو نقشا أو غير ذلك مما ينظر إليه، ويتعجب منه .

(و) السبب الرابع: أن (يقرب من حائط) ، أي: جدار (عند الصلاة) إن كان البيت واسعا (حتى لا يتسع مسافة بصره) ، فإن لم يمكنه فبسترة حائلة يقصر بصره عليها، فإن لم يمكنه فبخط يخطه يكون نظره عليه لا يتجاوزه، (و) أشار إلى السبب الخامس بقوله: (يحترز من الصلاة على الشوارع) جمع شارعة، وهي قارعة الطريق التي يسلكها الناس عامة، ولا تختص بقوم دون قوم، فإنها على قوارع الطريق تحدث أشغالا كثيرة تمنع الخشوع لاختلاف الناس في ذهابهم ورواحهم ولغطهم وغوغاهم، (و) السبب السادس أن يحترز من الصلاة (في المواضع المنقوشة) بأنواع الأصباغ من الحمرة والصفرة والخضرة والزرقة في سقوفها وجدرانها (المصنوعة) بأنواع الصنائع الغريبة في تركيبها وهيئتها، وقد ابتلي الناس بزخرفة المساجد، ونقشها بالصباغ المختلفة، وعدوا ذلك إكراما لبيت الرب، وذهلوا أنها من جملة الشواغل للمصلين، وهو من أعظم البدع والحوادث، وقد أطال فيها ابن الحاج في المدخل فراجعه .

(و) السبب السابع أن يحترز من الصلاة (على الفرش المصبوغة) بالألوان المفرحة، فإنها تلهي المصلي على الحضور، ويلتفت إلى حسن لونه وصنعته، وقد بلينا بالصلاة على هذه البسط الرومية والزرابي المزخرفة في المساجد والبيوت حتى صار المصلي على غيرها، كاد أن يعد جافيا قليل الأدب ناقص المروءة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما أظن ذلك إلا من جملة وساس الإفرنج لعنهم الله تعالى، التي أدخلوها على المسلمين، وهم غافلون عنها لا يدرون عن ذلك، وأغرب من ذلك أني رأيت بساطا في مسجد من المساجد عليه نقش وفي داخل النقش صورة الصليب، فازداد تعجبي من ذلك وتيقنت أنه من دسائس النصارى، والله أعلم. وبين في وعلى حسن الطباق، وبين المصنوعة والمصبوغة حسن الجناس .




الخدمات العلمية