الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس في : هيئة الدخول ينبغي أن لا يتخطى رقاب الناس ولا يمر بين أيديهم والبكور يسهل ذلك عليه فقد ورد وعيد شديد في تخطي الرقاب ، وهو أنه يجعل جسرا يوم القيامة يتخطاه الناس وروى ابن جريج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ رأى رجلا يتخطى رقاب الناس حتى تقدم فجلس ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته عارض الرجل حتى لقيه فقال يا فلان ، ما منعك أن تجمع اليوم معنا قال : يا نبي الله ، قد جمعت معكم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألم نرك : تتخطى رقاب الناس أشار به إلى أنه أحبط عمله .

وفي حديث مسند أنه قال : ما منعك أن تصلي معنا ؟ قال أو لم : ترني يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : رأيتك تأنيت وآذيت أي : تأخرت عن البكور وآذيت الحضور .

التالي السابق


(الخامسة: في هيئة الدخول) ، أي: كيف يفعل في حالة دخوله في المسجد (فينبغي أن لا يتخطى رقاب الناس) بأن يشق صفوف القاعدين بخطاه. يقال: خطا يخطو إذا مشى، وتخطى الشيء تخطيا إذا مشى عليه (ولا يمر بين أيديهم) في الصفوف، ولو كانوا لا يصلون (والمبكر) إلى المسجد في أول الوقت (يسهل عليه ذلك) ، أي: يتم له عدم التخطي، وعدم المرور (وقد ورد) في الأخبار الصحيحة (وعيد شديد في تخطي الرقاب، وهو) أي: ذلك الوعيد (أنه يجعل جسرا يوم القيامة) على جهنم (يتخطاه الناس) . قال العراقي: أخرجه الترمذي، وضعفه، وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس. اهـ .

قلت: وأخرجه أيضا أحمد، والطبراني في الكبير، والبيهقي في السنن، كلهم من طريق سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، ولفظهم جميعا: من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم؛ أي: من تجاوز رقابهم بالخطو إليها جعل جسرا يمر عليه من يساق إلى جهنم، جزاء لكل بمثل عمله، واختلف في ضبط الحديث، فقيل: هو ببنائه للمفعول، وهو الذي يقتضيه سياق المصنف، وصاحب القوت، ورجحه العراقي، وقال: هو أظهر، وأوفق للرواية، ويجوز بناؤه للفاعل، والمعنى: اتخذ لنفسه جسرا يمر عليه إلى جهنم بسبب ذلك، واقتصر عليه التوربشتي، وقال الطيبي: قوله: إلى جهنم صفة لنفسه، جسرا؛ أي: جسرا ممتدا إلى جهنم، وقال الترمذي بعدما أخرجه: غريب ضعيف، فيه رشدين بن سعد، ضعفوه. اهـ. وتبعه عبد الحق، وأورده الديلمي بلفظ: من تخطى رقبة أخيه المسلم جعله الله يوم القيامة جسرا على باب جهنم للناس، وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف، عن القاسم بن مخيمرة قال: الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والإمام يخطب كالرافع قدمه في النار، وواضعها في النار.

وأخرج الطبراني في الكبير من حديث عثمان بن الأزرق: من تخطى رقاب الناس بعد خروج الإمام، أو فرق بين اثنين كان كجار قصبه في النار. (وروى ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد، وأبو خالد المكي مولى بني أمية، وهو أثبت أصحاب نافع وعطاء، وكان من أوعية العلم، صدوقا ثقة، مات سنة تسع وأربعين ومائة، وقيل: سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقد جاوز المائة. روى له الجماعة - حديثا (مرسلا) . هكذا هو في القوت، وفيه تسامح، فإن المرسل عندهم هو الذي سقط فيه ذكر الصحابي، وهذا قد سقط فيه اثنان، فإنه يروي عن التابعين، فهو معضل في مصطلحهم (أن النبي -صلى الله عليه وسلم - بينا) . وفي القوت: بينما (هو يخطب يوم الجمعة) قال في النهاية: بينا أصله بين فأشبعت الفتحة، فصارت ألفا، يقال:

[ ص: 261 ] بينا وبينما هما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ، وإذا؛ تقول بينا زيد جالس دخل عليه عمرو، وقد جاء في الجواب إذ كما هنا في الحديث، وهو قوله: (إذ رأى رجلا يتخطى رقاب الناس حتى تقدم) ، أي: في الصف، (فجلس، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته عارض الرجل) ، أي: واجهه بعارض وجهه (حتى لقيه) ، ولا يكون اللقاء إلا بالنظر (فقال) له: (يا فلان، ما منعك أن تجمع اليوم معنا) ، أي: تصلي معنا الجمعة اليوم؟ (قال: يا نبي الله، قد جمعت معكم. فقال: أولم أرك تتخطى رقاب الناس) ، هكذا هو في القوت، وقال العراقي: أخرجه ابن المبارك في كتاب الرقائق. اهـ .

وزاد المصنف، فقال: (أشار بذلك إلى أنه أحبط عمله) ، أي: بتخطيه رقاب الناس، وفيه تسجيل عليه، حيث إنه نفى عنه صلاته مع القوم، وأنكر عليه بضرب من التبكيت، وفيه دليل لأبي حنيفة؛ حيث لم يمنعه -صلى الله عليه وسلم- وهو في حال خطبته لحرمة الكلام في أثنائها، وإنما أنكر عليه بعد الفراغ من صلاته، وهو -صلى الله عليه وسلم- معلم الشرائع، فلو لم يكن ذلك محل السكوت لتكلم (وفي حديث مسند) يريد به أنه مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه قال له: ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: أولم ترني؟ فقال: رأيتك آنيت وآذيت) . هكذا هو في القوت بعينه، وقال في معناه: (أي: تأخرت عن البكور وآذيت الحضور) ، أي: الجماعة الحاضرين. قال العراقي: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والحاكم من حديث عبد الله بن بسر مختصرا. اهـ .

قلت: ورواه أيضا ابن ماجه، وصححه هو والحاكم، وفي الطبراني قال لرجل: رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله. وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار، فقال: حدثنا بحر بن نصر، حدثنا ابن وهب قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبي الزاهرية، عن عبد الله بن بسر قال: كنت جالسا إلى جنبه يوم الجمعة، فقال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اجلس، فقد آذيت وآنيت. قال أبو الزاهرية: فكنا نتحدث حتى يخرج الإمام .

قلت: وفيه دليل لأبي حنيفة؛ حيث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بالجلوس، فلم يأمره بالصلاة، وهو يخالف حديث سليك الغطفاني الآتي ذكره، والعمل عندنا على حديث عبد الله بن بسر. والله أعلم .

وأخرجه ابن أبي شيبة من مرسل الحسن، فقال: حدثنا هشيم، عن يونس ومنصور، عن الحسن قال: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إذ جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم جمعة حتى جلس قريبا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى صلاته قال له النبي- صلى الله عليه وسلم- : يا فلان، أما جمعت؟ قال: يا رسول الله، أما رأيتني؟ قال: قد رأيتك آنيت وآذيت. اهـ .




الخدمات العلمية