الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الكسوة فأحبها البياض من الثياب ؛ إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض ولا يلبس ما فيه شهرة .

ولبس السواد ليس من السنة ، ولا فيه فضل ؛ بل كره جماعة النظر إليه ؛ لأنه بدعة محدثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


(وأما الكسوة فأحبها البياض من الثياب؛ إذ أحب الثياب إلى الله البياض) كما ورد في الخبر، وقد روى أحمد، والنسائي، والحاكم من حديث سمرة بن جندب: عليكم بالبياض من الثياب، فليلبسها أحياؤكم، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها من خير ثيابكم. ولفظ الحاكم: عليكم بهذه الثياب البياض. وقال: على شرطهما، وأقره الذهبي.

وأخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر، والبزار من حديث أنس نحو ذلك، وفي القوت: ومن أفضل ما لبس البياض، أو بردين يمانيين، وقال النووي في الروضة:

[ ص: 253 ] ويستحب التزين للجمعة بلبس أحسن الثياب، وأولاها البياض، فإن لبس مصبوغا، فما صبغ غزله، ثم نسج كالبرد، لا ما صبغ منسوجا ثوبه. اهـ. بل يكره لبسه، كما صرح به البندنيجي، وغيره .

قلت: وهذا يختلف باختلاف الأزمان والبلاد، فلبس البياض يكون في الصيف، ولبس المصبوغ يكون في الشتاء؛ إذ لو لبس في الشتاء البياض لتسارعت إليه العيون، ويكون شهرة ربما يخل بمروءته، فلا بد من التفصيل بالنسبة إلى هذه البلاد (ولا يلبس) من (ما فيه شهرة) كالأحمر القاني، والأصفر الفاقع، فقد ورد: من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوبا مثله، ثم تلهب فيه النار. رواه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عمر، وعند ابن ماجه، والضياء، عن أبي ذر: من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه حتى يضعه متى يضعه.

وأخرج أحمد من حديث ابن عمر: من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة (ولبس السواد ليس من السنة، ولا فيه فضل؛ بل كره جماعة النظر إليه؛ لأنه بدعة محدثة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم) ، وسيأتي له في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يكره ولا يستحب، لكنه ترك الأحب، ولفظ القوت: ولبس السواد يوم الجمعة ليس من السنة، ولا من الفضل أن تنظر إلى لابسه اهـ. ثم إن ظاهر كلامهما أنه يكره مطلقا، سواء فيه الخطيب والمصلون، والمعروف أن هذا كان خاصة بالخطيب، فهو الذي يلبس السواد، وأما عامة الناس، فلم يقل أحد بأنه يستحب لهم ذلك، وقد خالفهما أبو الحسن الماوردي، وأشار إلى ما ذكرت، فقال: ينبغي أن يختص بالمساجد السلطانية، وأن لا يجعل كل أحد شعاره. هكذا نقله الجيلي في شرح التنبيه، وقال القمولي: والظاهر أنه أراد في زمنه، وهي الدولة العباسية، فإنه كان شعارهم .

قال النووي: والصحيح أنه لا يستحب السواد إلا أن يظن ترتب مفسدة، وقال الشيخ عز الدين: المواظبة على لبس السواد بدعة، وإن منع أن لا يخطب إلا به، فليفعل، كذا في التجريد للمزجد، لكن قد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة وعليه عمامة سوداء، وعن عائشة رفعته: كانت عمامته سوداء، أو رايته سوداء تسمى العقاب، ولواؤه أسود. وروى أبو بكر أحمد بن محمد الخلال، عن سلمة بن وردان قال: رأيت على أنس عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه، وروي عن الحسن قال: كانت عمامة النبي -صلى الله عليه وسلم- سوداء، وعن ابن لؤلؤة قال: رأيت على ابن عمر عمامة سوداء، وروى عبد الوهاب البغدادي، عن عائشة أنها جعلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بردة سوداء من صوف، فذكرت سوادها وبياضه، فلبسها، فلما عرق، وخرج ريح الصوف قذفها، وكان يحب الريح الطيبة، وروى أحمد، عن عائشة قالت: كان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خميصة سوداء حين استقل به، وجمع، فهو يضعها مرة على وجهه، ومرة يكشفها عنه، وعن أم خالد بنت سعيد بن العاص قالت: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثياب فيها خميصة سوداء، فقال: ائتوني بأم خالد. فأتي بها، فألبسها بيده، فقال: أبلي، وأخلقي، وجعل ينظر إلى علم الخميصة، ويشير بيده إلي، ويقول: يا أم خالد هذا سناء، والسناء بلسان الحبشة الحسن، وفي الشفاء لعياض في باب معجزات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكر ما اطلع عليه من الغيوب أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بخروج ولد العباس بالرايات السود، فهذا متمسك الخلفاء من بني العباس في جعل السواد شعارا لهم؛ ولذا قال الزيلعي في شرح الكنز: إنه يسن لبس السواد للخطيب، وقد لبس السواد جماعة كعلي يوم قتل عثمان، وكان الحسن يخطب بثياب سود، وعمامة سوداء، وروي ذلك عن ابن الزبير، ومعاوية، وأنس، وعبد الله بن جرير، وعمار، وابن المسيب، وغيرهم. والله أعلم .




الخدمات العلمية