الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) للحديث الذي روينا ( إلا أم أخته من الرضاع فإنه يجوز أن يتزوجها ولا يجوز ) أن يتزوج أم أخته [ ص: 447 ] من النسب ) ; لأنها تكون أمه أو موطوءة أبيه ، بخلاف الرضاع ، ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع ، ولا [ ص: 448 ] يجوز ذلك من النسب ; لأنه لما وطئ أمها حرمت عليه ، ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع . .

التالي السابق


( قوله ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب للحديث الذي رويناه ) وهو بهذا اللفظ ( قوله إلا أم أخته من الرضاع ) يصح اتصال قوله من الرضاع بكل من الأم والأخت وبهما من جهة المعنى . فالأول أن يكون للرجل أخت من النسب لها أم من الرضاعة لم تكن أرضعته تحل له . والثاني أن يكون له أخت من الرضاعة لها أم من النسب تحل له إذا لم تكن هي المرضعة .

والثالث أن يرضع الصبي والصبية امرأة ولأخته من الرضاعة أم أخرى من الرضاع يحل للصبي تلك الأم ، أما من جهة الصناعة فإنما يتعلق بالأم حالا منه ; لأن الأم معرفة فيجيء الجار والمجرور حالا منه لا متعلقا بمحذوف وليس صفة ; لأنه معرفة : أعني أم أخته ، بخلاف أخته ; لأنه مضاف إليه ، وليس فيه شيء من مسوغات مجيء الحال منه ، ومثل هذا يجيء في أخت ابنه ، ولو قال أخت ولده كان أشمل ، فالأول له ابن من النسب له أخت من الرضاعة بأن ارتضع مع أجنبية من لم تكن امرأة أبيه حلت لأبيه ; لأنها ليست بنته من الرضاعة ولا ربيبته ، والثاني له ابن من الرضاع بأن ارتضع زوجة الرجل حلت للرجل أخته من النسب ، والثالث له ابن من الرضاع كما ذكرنا له أخت من الرضاعة من غير زوجة ذلك الرجل بأن ارتضع ذلك الولد امرأتين حلت أخته لأبيه من الرضاعة . وعلل استثناء الأول بعدم وجود المحرم من النسب فيه الذي هو معنى قوله بخلاف الرضاع بعد تعليله الحرمة في أم أخته من النسب بكونها أمه أو موطوءة أبيه ، وكذا في تعليله إخراج أخت [ ص: 447 ] ابنه من الرضاع بقوله ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع بعد تعليله حرمة أخت الابن من النسب بقوله ; لأنه لما وطئ أمها حرمت عليه ، وإنما اقتصر على هذا بناء على أنها ليست بنته لوضوح الشق الآخر فأفاد بالتعليلين أن المحرم في الرضاع وجود المعنى المحرم في النسب ليفيد أنه إذا انتفى في شيء من صور الرضاع انتفت الحرمة فيستفاد أنه لا حصر فيما ذكر ، وقد ثبت كذلك الانتفاء في صور أخرى : الأولى أم النافلة من الرضاع بأن أرضعت نافلتك أجنبية يجوز التزوج بها لانتفاء سبب التحريم في النسب وهي كونها بنتا أو حليلة الابن .

الثانية جدة ولدك من الرضاع بأن أرضعت ولدك أجنبية لها أم يجوز تزوجك بالأم ; لأنها ليست أمك ، وزاد بعضهم أم العم من الرضاع وأم الخال من الرضاعة ، وكذا عمة ولدك ; لأنها من النسب أختك وليست أختا من الرضاع ، وكذا المرأة يحل لها أن تتزوج بابن أختها من الرضاع وبأخي ولدها وبأبي حفيدها منه وبجد ولدها منه وخاله ، ولا يجوز ذلك كله في النسب لما قلنا في حق الرجل ، وقد جمعت في قوله :

يفارق النسب الرضاع في صور كأم نافلة وجدة الولد وأم عم وأخت ابن وأم أخ
وأم خال وعمة ابن اعتمد

واستشكل إلحاق أم العم وأم الخال بأنهما إما أن يكون كل منهما جدته من الرضاع أو موطوءة جده من الرضاع وكلاهما محرم في النسب ، إلا إن أراد بالعم من الرضاع من رضع مع أبيه ، وبالخال منه من رضع مع أمه وله أم أخرى من النسب أو الرضاع فحينئذ يستقيم .

ولقائل أن يمنع الحصر لجواز كونهما لم ترضع أباه ولا أمه فلا تكون جدته من الرضاع ولا موطوءة جده بل أجنبية أرضعت عمه من النسب وخاله ، ثم قالت طائفة : هذا الإخراج تخصيص للحديث : أعني { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } بدليل العقل ، والمحققون على أنه ليس تخصيصا ; لأنه أحال ما يحرم بالرضاع على ما يحرم بالنسب ، وما يحرم بالنسب هو ما تعلق به خطاب تحريمه وقد تعلق بما عبر عنه بلفظ الأمهات والبنات { وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } فما كان من مسمى هذه الألفاظ متحققا في الرضاع حرم فيه ، والمذكورات ليس شيء منها من مسمى تلك فكيف تكون مخصصة وهي غير متناولة ؟ ولذا إذا خلا تناول الاسم في النسب جاز النكاح ، كما إذا ثبت النسب من اثنين ولكل منها بنت جاز لكل منهما أن يتزوج بنت الآخر وإن كانت أخت ولده من النسب .

وأنت إذا حققت مناط الإخراج أمكنك تسمية صور أخرى ، والاستثناء في عبارة الكتاب على هذا يجب أن يكون منقطعا : أعني قوله { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } إلا أم أخته إلخ ، وعلى هذا فالاستدلال على تحريم حليلة الأب والابن من الرضاع بقوله { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } مشكل ; لأن حرمتهما ليست بسبب النسب بل بسبب الصهرية ، فإن المحرمات من النسب سبع وهن اللاتي عددناهن آنفا كما في آية المحرمات وما بعدهن فيها فمحرمات بالرضاع والصهرية ; ومقتضى الحديث أن من كانت أما من الرضاعة أو بنتا أو أختا أو بنت أخ إلخ تحرم ، فإثبات تحريم حليلة كل من الأب والابن من الرضاعة قول بلا دليل بل الدليل يفيد حلها وهو قيد الأصلاب في الآية وكونه لإخراج حليلة المتبني لا ينفي أن يكون لإخراج حليلة الأب والابن من الرضاع لصلاحيته لذلك فكان لإخراجهما أيضا ولا يلزم كون الحديث غير معمول به على هذا التقدير بل يوفر على كل من الحديث والنص مقتضى لفظه ، بخلاف حرمة [ ص: 448 ] الجمع بين الأختين من الرضاع فإن الحديث المذكور يفيد منعه ; لأنه يحرم من النسب الجمع بين الأختين منه فكذا الجمع بين أختين من الرضاع .

فإن قلت : فليثبت بالقياس على حرمة المصاهرة بجامع الجزئية .

فالجواب أن الجزئية المعتبرة في حرمة الرضاع هي الجزئية الكائنة عن النشوء وإنبات اللحم لا مطلق الجزئية ، وهذه ليست الجزئية الكائنة في حرمة المصاهرة إذ لا إنبات للحم من المني المنصب في الرحم ; لأنه غير واصل من الأعلى فهو بالحقنة أشبه منه بالمشروب حيث يخرج كلها شيئا فشيئا حتى لا يبقى منها شيء ولا يستحيل إلى جوهر الإنسان كما يخرج المني ولدا فلا يبقى منه في المرأة شيء استحال إلى جوهرها .




الخدمات العلمية