الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( وإذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء ) أما القتل فلقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء } الآية نص على إيجاب الجزاء .

وأما [ ص: 69 ] الدلالة ففيها خلاف الشافعي رحمه الله . هو يقول : الجزاء تعلق بالقتل ، والدلالة ليست بقتل ، فأشبه دلالة الحلال حلالا . ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة رضي الله عنه . [ ص: 70 ] وقال عطاء رحمه الله : أجمع الناس على أن على الدال الجزاء ; ولأن الدلالة من محظورات الإحرام ولأنه تفويت الأمن على الصيد إذ هو آمن بتوحشه وتواريه فصار كالإتلاف ; ولأن المحرم بإحرامه التزم الامتناع عن التعرض فيضمن بترك ما التزمه كالمودع [ ص: 71 ] بخلاف الحلال لأنه لا التزام من جهته ، على أن فيه الجزاء على ما روي عن أبي يوسف وزفر رحمهما الله ، والدلالة الموجبة للجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد وأن يصدقه في الدلالة ، حتى لو كذبه وصدق غيره لا ضمان على المكذب ( ولو كان الدال حلالا في الحرم لم يكن عليه شيء ) لما قلنا ( وسواء في ذلك العامد والناسي ) لأنه ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف [ ص: 72 ] فأشبه غرامات الأموال ( والمبتدئ والعائد سواء ) لأن الموجب لا يختلف .

التالي السابق


( قوله : فأشبه دلالة الحلال حلالا ) كون المدلول حلالا اتفاقي ، والمراد أشبه دلالة الحلال على صيد الحرم غيره حلالا أو محرما فإنه استحق الأمن بحلوله في الحرم كما استحق الصيد مطلقا الأمن بالإحرام ، فكما أن تفويت الأمن المستحق بالحرم لا يوجب الجزاء كذا تفويت المستحق بالإحرام لا يوجبه . ( قوله : ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة ) أي في باب الإحرام ، وتقدم تخريجه من الصحيحين وغيرهما وليس فيه هل دللتم بل قال عليه الصلاة والسلام { هل منكم أحد أمره أن يحمل [ ص: 70 ] عليها أو أشار إليها ؟ قالوا لا ، قال : فكلوا ما بقي من لحمها } وجه الاستدلال به على هذا أنه علق الحل على عدم الإشارة ، وهي تحصل الدلالة بغير اللسان فأحرى أن لا يحل إذا دله باللفظ فقال هناك صيد ونحوه .

قالوا : الثابت بالحديث حرمة اللحم على المحرم إذا دل . قلنا : فيثبت أن الدلالة من محظورات الإحرام بطريق الالتزام لحرمة اللحم فيثبت أنه محظور إحرام هو جناية على الصيد فنقول حينئذ : إنه جناية على الصيد بتفويت الأمن على وجه اتصل قتله عنها ففيه الجزاء كالقتل ، وهذا هو القياس الذي ذكره المصنف بعد ذلك فلا يحسن عطفه على الحديث ; لأن الحديث لم يثبت الحكم المتنازع فيه وهو وجوب الكفارة بل محل الحكم ، ثم ثبوت الوجوب المذكور في المحل إنما هو بالقياس على القتل . وعن هذا الوجه والقياس الآخر الذي سنذكره وهو إلحاق الدال بالمودع . وقول عطاء : أجمع الناس على أن على الدال الجزاء وليس الناس إذ ذاك إلا الصحابة والتابعين يجب أن يحمل ما عن ابن عمر أن لا جزاء على الدال على دال لم يقع عن دلالته قتل دفعا لتوهم أن مجرد الدلالة موجبة للجزاء . هذا وحديث عطاء غريب ، وذكره ابن قدامة في المغني عن علي وابن عباس ، على أن قول الطحاوي هو مروي عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يرو عن غيرهم خلافه فكان إجماعا يتضمن رد الرواية عن ابن عمر . ( قوله : كالمودع ) هذا هو القياس الآخر .

وتقريره التزم عدم التعرض للصيد بعقد خاص فيضمن ما تلف عن ترك ما التزمه ، كالمودع فإنه التزم الحفظ كذلك فيضمن لو دل سارقا على الوديعة فسرقها ، بخلاف الحلال الذي قاس هو عليه ; لأنه لم يلتزم عدم التعرض لصيد الحرم ولا للمسلم بعقد خاص بل بعموم حكم الإسلام ، وترك ذلك [ ص: 71 ] يوجب استحقاق عذاب الآخرة ، فلهذا لو دل سارقا على مال مسلم أو نفسه فقتله تأخر جزاؤه الأعظم إلى الآخرة ، ويعزر في الدنيا من غير تضمين وإن كانت جنايته أعظم من دلالة المحرم على الصيد . ( قوله : لا ضمان على المكذب ) يفيد لزوم الضمان على المصدق . وفي الكافي : لو أخبر محرما بصيد فلم يره حتى أبصره محرم آخر فلم يصدق الأول ولم يكذبه ثم طلب الصيد فقتله كان على كل واحد منهما الجزاء ، ولو كذب الأول لم يكن عليه جزاء . ومن شرائطها أيضا أن يتصل بها القتل ، وأن يبقى الدال محرما إلى أن يقتله الآخذ ، وأن لا ينفلت ، فلو انفلت ثم أخذه فلا شيء على الدال لانتهاء دلالته بالانفلات والأخذ ثانيا إنشاء لم يكن عن عين تلك الدلالة ، ولو أمره بقتله بعدما أخذه ينبغي أن يضمن .

وعلى هذا إذا أعاره سكينا ; ليقتله بها وليس مع الآخذ ما يقتله به أو قوسا أو نشابا يرميه به ، وقد قدمنا من روايات الحديث في باب الإحرام عند مسلم هل أعنتم ، ولا شك أن إعارة السكين إعانة عليه . وما في الأصل من أنه لا جزاء على صاحب السكين حمل على ما إذا كان المستعير يقدر على ذبحه بغيرها ، وصرح في السير بأن على صاحب السكين الجزاء ، وكذا لو دل على قوس ونشاب من رآه ولا يقدر على قتله ; لبعده . واعلم أن صريح عبارة الأصل في الإعارة أنه لا جزاء على صاحب السكين ويكره له ذلك . قال شمس الأئمة في المبسوط : أكثر مشايخنا يقولون تأويل هذه المسألة أنه إذا كان مع المحرم القاتل سلاح يقتل به ; لأنه متمكن من قتله ، فأما [ ص: 72 ] إذا لم يكن معه ما يقتل به ينبغي أن يجب الجزاء ; لأن التمكن بإعارته له ، وإلى هذا أشار في السير . قال شمس الأئمة : والأصح عندي أنه لا يجب الجزاء على المعير على كل حال لوجهين حاصل الأول أن معنى الصيدية تلف بأخذ المستعير للصيد فأخذه قتل حكما ثم يقتله حقيقة ، وإعارة السكين ليس بإتلاف حقيقة ولا حكما ، بخلاف الدلالة فإنه إتلاف لمعنى الصيدية من وجه حيث أعلم به من لا يقدر الصيد على الامتناع منه .

والثاني : أن إعارة السكين تتم بالسكين لا بالصيد فإنها صحيحة وإن لم يكن صيد إذ لا يتعين استعماله في قتل الصيد ، بخلاف الإشارة إلى قتل الصيد فإنها متصلة بالصيد ليس فيها فائدة أخرى سوى ذلك ، ولا يتم ذلك إلا بصيد هناك ولذا يتعلق وجوب الجزاء بها . ولو أمر المحرم غيره بأخذ صيد فأمر المأمور آخر فالجزاء على الآمر الثاني ; لأنه لم يتمثل أمر الأول ; لأنه لم يأمره بالأمر ، بخلاف ما لو دل الأول على الصيد وأمره فأمر الثاني ثالثا بالقتل حيث يجب الجزاء على الثلاثة ، وكذا الإرسال ; فلو أرسل محرم محرما إلى محرم يدله على صيد فقتله المرسل إليه فعلى كل من الثلاثة الجزاء . وعن أبي يوسف : لو قال خلف هذا الحائط صيد فإذا صيد كثير فأخذه ضمن الدال كله ، فلو رأى واحدا فدل عليه فإذا عنده آخر فقتلهما المدلول كان على الدال جزاء الأول فقط . كما لو دله على واحد تنصيصا والباقي بحاله .

ولو قال خذ أحد هذين وهو يراهما فقتلهما كان على الدال جزاء واحد ، وإن كان لا يراهما فعليه جزاءان ; لأنه بالأمر بأخذ أحدهما دال على الآخر لما لم يعلم المأمور بهما . ( قوله : فأشبه غرامات الأموال ) من حيث إن الضمان يدور [ ص: 73 ] مع الإتلاف غير مقيد بالعمد لا مطلقا ، فإن هذا الضمان يتأدى بالصوم .




الخدمات العلمية