الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 15 ] آ . (3) قوله تعالى : نزل عليك الكتاب : العامة على التشديد في "نزل " ونصب "الكتاب " . وقرأ الأعمش والنخعي وابن أبي عبلة : نزل بتخفيف الزاي ورفع الكتاب ، فأما القراءة الأولى فقد تقدم أن هذه الجملة يحتمل أن تكون خبرا وأن تكون مستأنفة . وأما القراءة الثانية فالظاهر أن الجملة فيها مستأنفة ، ويجوز أن تكون خبرا ، والعائد حينئذ محذوف ، تقديره : نزل الكتاب من عنده .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " بالحق " فيه وجهان ، أحدهما : أن تتعلق الباء بالفعل قبلها والباء حينئذ للسببية ، أي : نزله بسبب الحق . والثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها حال : إما من الفاعل أي : نزله محقا ، أو من المفعول أي : نزله ملتبسا بالحق نحو : جاء بكر بثيابه أي : ملتبسا بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مكي : "ولا تتعلق الباء بنزل لأنه قد تعدى إلى مفعولين ، أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث " وهذا الذي ذكره مكي غير ظاهر ، فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون ، وقد تقدم أن معنى الباء السببية ، فأي مانع يمنع من ذلك ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : مصدقا فيه أوجه ، أحدهما : أن ينتصب على الحال من "الكتاب " ، فإن قيل إن "بالحق " حال كانت هذه حالا ثانية عند من يجيز تعدد الحال ، وإن لم يقل ذلك كانت حالا أولى . والثاني : أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل "بالحق " وذلك عند من يمنع تعدد الحال في غير عطف ولا بدلية . الثالث : أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في "بالحق " إذا جعلناه حالا ، لأنه حينئذ يتحمل ضميرا لقيامه مقام الحال التي [ ص: 16 ] تتحمله ، وتكون حالا متداخلة أي : إنها حال من حال ، وعلى هذه الأقوال كلها فهي حال مؤكدة ، لأنه لا يكون إلا كذلك ، فالانتقال غير متصور فيه ، وهو نظير قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1158 - أنا ابن دارة معروفا بها نسبي وهل بدارة يا للناس من عار



                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لما بين يديه مفعول لمصدقا ، وزيدت اللام في المفعول تقوية للعامل لأنه فرع ، إذ هو اسم فاعل كقوله تعالى : فعال لما يريد وإنما ادعينا ذلك لأن هذه المادة متعدية بنفسها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : التوراة والإنجيل اختلف الناس في هاتين اللفظتين : هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أم لا يدخلانهما لكونهما أعجميين ؟ فذهب جماعة كالزمخشري وغيره إلى الثاني . قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين . قال الزمخشري : "وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما عربيين " . [قال الشيخ : "وكلامه صحيح ، إلا أن فيه استدراكا وهو قوله : تفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين ] وهو أن وزنها فوعلة ، ولم ينبه على تفعلة : هل هي بكسر العين أو فتحها " قلت : لم يحتج إلى التنبيه لشهرتهما ، وإنما ذكر المستغرب . ويؤيد ما قاله الزمخشري من كونها أعجمية ما نقله الواحدي ، [ ص: 17 ] وهو أن التوراة والإنجيل والزبور سريانية فعربوها قال : "ولذلك يقولون فيها بالسريانية : توري إيكليون زفوتا " فعربوها إلى ما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا : فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وري الزند إذا قدح فظهر منه نار . يقال "وري الزند " و "أوريته أنا " . قال تعالى : أفرأيتم النار التي تورون فثلاثيه قاصر ورباعية متعد . وقال تعالى : فالموريات قدحا ، ويقال أيضا : "وريت بك زنادي " فاستعمل الثلاثي متعديا ، إلا أن المازني يزعم أنه لا يتجاوز به هذا اللفظ ، يعني فلا يقاس عليه ، فيقال : "وريت النار " مثلا . إذا تقرر ذلك فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور يخرج به من الضلال [إلى ] الهدى ، كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور سمي هذا الكتاب بالتوراة ، وهذا هو قول الفراء ، وهو مذهب جمهور الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون : بل هي مشتقة من "وريت في كلامي " من التورية وهي التعريض . وفي الحديث : "كان إذا أراد سفرا ورى بغيره " وسميت التوراة بذلك لأن أكثرها تلويحات ومعاريض ، وإلى هذا ذهب المؤرج السدوسي وجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي وزنها ثلاثة أقوال أحدها : وهو قول الخليل وسيبويه أن [ ص: 18 ] وزنها فوعلة ، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو : الدوخلة والقوصرة والدوسرة والصومعة ، والأصل : وورية بواوين ، لأنها إما من وري الزند ، وإما من وريت في كلامي ، فأبدلت الواو الأولى تاء وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فصار اللفظ : توراة كما ترى ، وكتبت بالياء منبهة على الأصل ، كما أميلت لذلك ، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو : تولج وتيقور وتخمة وتكأة وتراث وتجاه وتكلان من : الولوج والوقار والوخامة والوكاء والوراثة والوجه والوكالة . ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضا في قولهم لما تراه المرأة في الطهر بعد الحيض : "الترية " هي فعيلة من لفظ الوراء لأنها ترى بعد الصفرة والكدرة .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : - وهو قول الفراء - أن وزنها تفعلة بكسر العين ، فأبدلت الكسرة فتحة ، وهي لغة طائية ، يقولون في الناصية : ناصاة ، وفي بقي : بقى قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1159 - ... ... ... ...     بحرب كناصاة الأغر المشهر



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1160 - ... ... ... ... [ ص: 19 ]     نفوسا بنت على الكرم



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد الفراء :


                                                                                                                                                                                                                                      1161 - وما الدنيا بباقاة علينا     وما حي على الدنيا بباق



                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد البصريون ذلك بوجهين ، أحدهما : أن هذا البناء قليل جدا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فوعلة فإنه كثير ، فالحمل على الأكثر أولى . والثاني : أنه يلزم منه زيادة التاء أولا والتاء لم تزد أولا إلا في مواضع ليس هذا منها بخلاف قلبها في أول الكلمة فإنه ثابت ، وذلك أن الواو إذا وقعت أولا قلبت : إما همزة نحو : أجوه وأقتت وأحد وأناة وإشاح وإعاء في : وجوه ووقتت ووحد ووناة ووشاح ووعاء ، وإما تاء نحو : تجاه وتخمة ... إلخ ، فاتباع ما عهد أولى من اتباع ما لم يعهد .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن وزنها تفعلة بفتح العين وهو مذهب الكوفيين ، كما يقولون في : تتفلة بالضم تتفلة بالفتح ، وهذا لا حاجة إليه وهو أيضا دعوى لا دليل عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمال التوراة حيث وردت في القرآن إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وأمالها بين بين حمزة وورش عن نافع ، واختلف عن قالون : فروي عنه بين بين والفتح ، وقرأها الباقون بالفتح فقط . ووجه الإمالة إن قلنا بأن ألفها منقلبة عن ياء ظاهر ، وإن قلنا إنها أعجمية لا اشتقاق لها فوجه الإمالة شبه ألفها لألف التأنيث من حيث وقوعها رابعة فسبب إمالتها : إما الانقلاب وإما شبه ألف التأنيث .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 20 ] والإنجيل : قيل : إفعيل كإجفيل . وفي وزنه أقوال ، أحدها : أنه مشتق من النجل وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها ، ومنه : النجل للولد ، وسمي الإنجيل لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ . وقيل : من النجل وهو الأصل ، ومنه "النجل " للوالد فهو من الأضداد ، إذ يطلق على الولد والوالد ، قال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      1162 - أنجب أيام والداه به     إذ نجلاه فنعم ما نجلا



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : من النجل وهو التوسعة ، ومنه : العين النجلاء لسعتها ، وسمي الإنجيل بذلك ؛ لأن فيه توسعة لم تكن في التوراة ، إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو مشتق من التناجل وهو التنازع ، يقال : تناجل الناس أي : تنازعوا ، وسمي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه قاله أبو عمرو الشيباني .

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة على كسر الهمزة من "إنجيل " . وقرأ الحسن بفتحها . قال الزمخشري : "وهذا يدل على أنه أعجمي لأن " أفعيلا "بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب " . قلت : بخلاف إفعيل بكسرها فإنه موجود نحو : إجفيل وإخريط وإصليت .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 21 ] وفرق الزمخشري بين "نزل " و "أنزل " على عادته فقال : "فإن قلت : لم قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل ؟ قلت : لأن القرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة " . قال الشيخ : "قد تقدم الرد على هذا القول في البقرة ، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ولا على التنجيم ، وقد جاء في القرآن : أنزل ونزل ، قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر و نزل عليك الكتاب ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان من " ينزل "مشددا بالتخفيف إلا ما استثني ، ولو كان أحدهما يدل على التنجيم والآخر على النزول دفعة واحدة لتناقض الإخبار وهو محال " . قلت : وقد سبق الزمخشري إلى هذا الفرق بعينه الواحدي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية