الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (193) قوله تعالى : سمعنا مناديا ينادي : "سمع " إن دخلت على ما يصح أن يسمع نحو : "سمعت كلامك وقراءتك " تعدت لواحد ، وإن دخلت على ما لا يصح سماعه بأن كان ذاتا فلا يصح الاقتصار عليه وحده ، بل لا بد من الدلالة على شيء يسمع نحو : "سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وللنحويين في هذه المسألة قولان ، أحدهما : أنها تتعدى فيه أيضا إلى مفعول واحد ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، وحالا إن كان معرفة . والثاني : - قول الفارسي وجماعة - تتعدى لاثنين الجملة في محل الثاني منهما . فعلى قول الجمهور يكون "ينادي " في محل نصب لأنه صفة لمنصوب قبله ، وعلى قول الفارسي يكون في محل نصب على أنه مفعول ثان .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 535 ] وقال الزمخشري : "تقول : سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع أو جعلته حالا منه فأغناك عن ذكره ، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد ، وأن تقول : سمعت كلام فلان أو قوله " . وهذا قول الجمهور الذي قدمت لك ذكره . إلا أن الشيخ اعترض عليه فقال : "قوله : ولولا الوصف أو الحال إلى آخره ليس كذلك ، بل لا يكون وصف ولا حال ومع ذلك تدخل " سمع "على ذات لا على مسموع " كقوله تعالى : هل يسمعونكم إذ تدعون فأغنى ذكر ظرف الدعاء من المسموع " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء في " ينادي "أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في " مناديا " .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : فما الفائدة في الجمع بين " مناد "و " ينادي " ؟ فأجاب الزمخشري بأنه ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي لأنه لا منادي أعظم من مناد للإيمان ، وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإطفاء الثائرة أو لإغاثة المكروب أو لكفاية بعض النوازل أو لبعض المنافع ، فإذا قلت : " ينادي للإيمان "فقد رفعت من شأن المنادي وفخمته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب أبو البقاء عنه بثلاثة أجوبة أحدها : التوكيد نحو : قم قائما . الثاني : أنه وصل به ما حسن التكرير وهو " للإيمان " . الثالث : أنه لو اقتصر [ ص: 536 ] على الاسم لجاز أن نسمع معروفا بالنداء يذكر ما ليس بنداء فلما قال " ينادي "ثبت أنهم سمعوا نداءه في هذه الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      ومفعول " ينادي "محذوف أي : ينادي الناس . ويجوز ألا يراد مفعول نحو : أمات وأحيا . و " نادى "و " دعا "يتعديان باللام تارة وبـ " إلى "أخرى ، وكذلك " ندب " . قال الزمخشري : "وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعا " فاللام في موضعها ، ولا حاجة إلى أن يقال : إنها بمعنى "إلى " ولا إنها بمعنى الباء ، ولا إنها لام العلة أي : لأجل الإيمان كما ذهب إلى ذلك بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أن آمنوا في "أن " قولان ، أحدهما : أنها تفسيرية لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعراب . والثاني : أنها المصدرية وصلت بفعل الأمر ، وفي وصلها به نظر من حيث إنها إذا انسبك منها ومما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وصلها بالأمر بقولهم : "كتبت إليه بأن قم " فهي هنا مصدرية ليس إلا ، وإلا يلزم تعليق حرف الجر . ولهذا موضع هو أليق به ، وإذ قيل بأنها مصدرية فالأصل التعدي إليها بالباء أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبان المشهوران : الجر والنصب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فآمنا عطف على "سمعنا " ، والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان عن السماع من غير مهلة ، والمعنى : فآمنا بربنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : مع الأبرار ظرف متعلق بما قبله أي : توفنا معدودين في صحبتهم . وقيل : تجوز به هنا عن الزمان . ويجوز أن يكون حالا من المفعول [ ص: 537 ] فيتعلق بمحذوف ، وأجاز مكي وأبو البقاء أن تكون صفة لمحذوف أي : أبرارا مع الأبرار كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1514 - كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن



                                                                                                                                                                                                                                      أي : كأنك جمل من جمال . قال أبو البقاء : "ويكون " أبرارا "حالا ، ولا حاجة إلى دعوى ذلك . والأبرار يجوز أن يكون جمع " بار "كصاحب وأصحاب ، أو بر بزنة " كتف "نحو : كتف وأكتاف .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية