الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (22) قوله تعالى : ما نكح آباؤكم : في "ما " هذه قولان أحدهما : أنها موصولة اسمية واقعة على أنواع من يعقل ، كما تقدم ذلك في قوله ما طاب لكم ، وهذا عند من لا يجيز وقوعها على آحاد العقلاء . فأما من يجيز ذلك فيقول : إنها واقعة موقع "من " ، فـ "ما " مفعول به بقوله ولا تنكحوا ، والتقدير : ولا تتزوجوا من تزوج آباؤكم . والثاني : أنها مصدرية أي : ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الذي كان في الجاهلية وهو النكاح الفاسد كنكاح الشغار وغيره ، واختار هذا القول جماعة منهم ابن جرير الطبري قال : "ولو كان معناه : ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع "ما " "من " . انتهى . وتبين كونه حراما أو فاسدا [من ] قوله : إنه كان فاحشة ومقتا . قوله : من النساء : تقدم نظيره أول السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا ما قد سلف في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه منقطع ، إذ الماضي لا يجامع الاستقبال ، والمعنى : أنه لما حرم عليهم نكاح ما نكح آباؤهم تطرق الوهم إلى ما مضى في الجاهلية ما حكمه ؟ فقيل : إلا ما قد سلف أي : لكن ما سلف فلا إثم فيه . وقال ابن زيد في معنى ذلك أيضا : " إن [ ص: 636 ] المراد بالنكاح العقد الصحيح "وحمل إلا ما قد سلف على ما كان يتعاطاه بعضهم من الزنا فقال : " إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام ، وكأنه قيل : ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم إلا ما قد سلف من زناهم ، فإنه يجوز لكم أن تتزوجوهم فهو استثناء منقطع أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه استثناء متصل وفيه معنيان ، أحدهما : أن يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أنه نهى أن يطأ الرجل امرأة وطئها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة فإنه يجوز للابن تزويجها . نقل هذا المعنى عن ابن زيد أيضا ، إلا أنه لا بد من التخصيص في شيئين : أحدهما قوله : ولا تنكحوا أي ولا تطؤوا وطئا مباحا بالتزويج . والثاني : التخصيص في قوله : إلا ما قد سلف بوطء الزنا ، وإلا فالوطء فيما قد سلف قد يكون وطئا غير زنا ، وقد يكون زنا ، فيصير التقدير : ولا تطؤوا ما وطئ آباؤكم وطئا مباحا بالتزويج إلا من كان وطؤها فيما مضى وطء زنا . ويجوز على هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن زيد أن يراد بالنكاح الأول العقد ، وبالثاني الوطء ، أي : ولا تتزوجوا من وطئها آباؤكم إلا من كان وطؤها وطء زنا .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى الثاني : "ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم في الجاهلية إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليها في الإسلام إذا كان مما يقر الإسلام عليه " وهذا على رأي من يجعل "ما " مصدرية وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "فإن قلت : كيف استثنى " ما قد سلف "من " ما نكح آباؤكم " ؟ قلت : كما استثنى " غير أن سيوفهم "من قوله : " ولا عيب فيهم "يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحل لكم غيره ، [ ص: 637 ] وذلك غير ممكن ، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته ، كما تعلق بالمحال في التأبيد في نحو قولهم : " حتى يبيض القار "و " حتى يلج الجمل في سم الخياط " . انتهى . أشار - رحمه الله - إلى بيت النابغة في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1561 - ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب



                                                                                                                                                                                                                                      يعني إن وجد فيهم عيب فهو هذا ، وهذا لا يعده أحد عيبا فانتفى العيب عنهم بدليله . ولكن هل الاستثناء على هذا المعنى الذي أبداه الزمخشري من قبيل المنقطع أو المتصل ؟ والحق أنه متصل لأن المعنى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا اللائي مضين وفنين ، وهذا محال ، وكونه محالا لا يخرجه عن الاتصال . وأما البيت ففيه نظر ، والظاهر أن الاستثناء فيه متصل أيضا ، لأنه جعل العيب شاملا لقوله " غير أن سيوفهم "بالمعنى الذي أراده . وللبحث فيه مجال .

                                                                                                                                                                                                                                      وتلخص مما تقدم أن المراد بالنكاح في هذه الآية العقد الصحيح أو الفاسد أو الوطء ، أو : يراد بالأول العقد وبالثاني الوطء ، وقد تقدم القول في البقرة : هل هو حقيقة فيهما أو في أحدهما ؟ واختلاف الناس في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا والأصل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف . وهذا فاسد من حيث الإعراب ومن حيث المعنى : أما الأول فلأن ما في حيز " إن "لا يتقدم عليها ، وأيضا فالمستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها سواء كان متصلا أم منقطعا ، وإن كان في هذا خلاف ضعيف . وأما الثاني فلأنه [ ص: 638 ] أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي بقوله " كان "فلا يصح أن يستثنى منه الماضي ، إذ يصير المعنى : هو فاحشة في الزمان الماضي إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة .

                                                                                                                                                                                                                                      والمقت : بغض مقرون باستحقار فهو أخص منه . والضمير في قوله " إنه "عائد على النكاح المفهوم من قوله : ولا تنكحوا ، ويجوز أن يعود على الزنى إذا أريد بقوله إلا ما قد سلف الزنى و " كان "هنا لا تدل على الماضي فقط لأن معناها هنا معنى لم يزل ، وهذا المعنى هو الذي حمل المبرد على قوله " إنها زائدة " . ورد عليه بوجود الخبر والزائدة لا خبر لها ، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرته من كونها لا تدل على الماضي فقط ، فعبر عن ذلك بالزيادة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وساء سبيلا في "ساء " قولان ، أحدهما : أنها جارية مجرى "بئس " في الذم والعمل ، ففيها ضمير مبهم يفسره ما بعده وهو "سبيلا " والمخصوص بالذم محذوف تقديره : "وساء سبيلا سبيل هذا النكاح " كقوله : "بئس الشراب " أي : ذلك الماء . والثاني : أنها لا تجري مجرى "بئس " في العمل بل هي كسائر الأفعال ، فيكون فيها ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في "إنه " ، و "سبيلا " على كلا التقديرين تمييز .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الجملة وجهان أحدهما : أنه لا محل لها بل هي مستأنفة ، ويكون الوقف على قوله : "ومقتا " ثم يستأنف "وساء سبيلا " أي : وساء هذا [ ص: 639 ] السبيل من نكاح من نكحهن من الآباء . والثاني : أن يكون معطوفا على خبر "كان " ، على أن يجعل محكيا بقول مضمر ، ذلك القول هو المعطوف على الخبر ، والتقدير : ومقولا فيه : ساء سبيلا ، هكذا قدره أبو البقاء . ولقائل أن يقول : يجوز أن يكون عطفا على خبر "كان " من غير إضمار قول ، لأن هذه الجملة في قوة المفرد ، ألا ترى أنه يقع خبرا بنفسه تقول : "زيد ساء رجلا " و "كان زيدا ساء رجلا " ، فغاية ما في الباب أنك أتيت بأخبار "كان " أحدهما مفرد والآخر جملة ، اللهم إلا أن يقال : إن هذه جملة إنشائية ، والإنشائية لا تقع خبرا لـ "كان " ، فاحتاج إلى إضمار القول وفيه بحث .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية