الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (43) قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة : فيه وجهان ، أحدهما : أن في الكلام حذف مضاف تقديره : مواضع الصلاة ، والمراد بمواضعها المساجد ، ويؤيد هذا قوله بعد ذلك : إلا عابري سبيل في أحد التأويلين . والثاني : أنه لا حذف ، والنهي عن قربان نفس الصلاة في هذه الحالة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 688 ] قوله : وأنتم سكارى مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من فاعل "تقربوا " . وقرأ الجمهور : "سكارى " بضم السين وألف بعد الكاف ، وفيه قولان ، أحدهما : - وهو الصحيح - أنه جمع تكسير ، نص عليه سيبويه ، قال : "وقد يكسرون بعض هذا على فعالى ، وذلك كقول بعضهم "سكارى " "وعجالى " . والثاني : أنه اسم جمع ، وزعم ابن الباذش أنه مذهب سيبويه ، قال : " وهو القياس لأنه لم يأت من أبنية الجمع شيء على هذا الوزن " . وذكر السيرافي الخلاف ، ورجح كونه تكسيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش : " سكرى "بضم السين وسكون الكاف ، وتوجيهها أنها صفة على فعلى كحبلى ، وقعت صفة لجماعة أي : وأنتم جماعة سكرى . وحكى جناح بن حبيش : " كسلى وكسلى "بضم الكاف وفتحها . قاله الزمخشري . وقرأ النخعي : " سكرى "بفتح السين وسكون الكاف ، وهذه تحتمل وجهين ، أحدهما : ما تقدم في القراءة قبلها وهو أنها صفة مفردة على فعلى كامرأة سكرى وصف بها الجماعة . والثاني : أنها جمع تكسير كجرحى وموتى وهلكى ، وإنما جمع سكران على " فعلى "حملا على هذه ؛ لما فيه من الآفة اللاحقة للفعل ، وقد تقدم لك شيء من هذا في قوله في البقرة عند قوله : وإن يأتوكم أسارى ، وقرئ " سكارى "بفتح السين ، والألف ، وهذا جمع تكسير نحو : ندمان وندامى وعطشان وعطاشى .

                                                                                                                                                                                                                                      والسكر لغة : السد ، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر ؛ لأنه [ ص: 689 ] يسد ما بين المرء وعقله ، وأكثر ما يقال السكر لإزالة العقل بالمسكر ، وقد يقال ذلك لإزالته بغضب ونحوه من عشق وغيره قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1586 - سكران سكر هوى وسكر مدامة أنى يفيق فتى به سكران



                                                                                                                                                                                                                                      والسكر - بالفتح وسكون الكاف - حبس الماء ، وبكسر السين نفس الموضع المسدود ، وأما " السكر "بفتحهما فما يسكر به من المشروب ، ومنه سكرا ورزقا حسنا ، وقيل : - السكر بضم السين وسكون الكاف - السد أي : الحاجز بين الشيئين قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1587 - فما زلنا على السكر     نداوي السكر بالسكر



                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل : أن أصل المادة الدلالة على الانسداد ، ومنه " سكرت عين البازي "إذا خالطها نوم ، و " سكر النهر "إذا لم يجر ، وسكرته أنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : حتى تعلموا " حتى "جارة بمعنى " إلى " ، فهي متعلقة بفعل النهي ، والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " ، وتقدم تحقيقه . و "ما " يجوز فيها ثلاثة أوجه : أن تكون بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والعائد على هذين القولين محذوف أي : يقولونه ، أو مصدرية فلا حذف إلا على رأي ابن السراج ومن تبعه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولا جنبا نصب على أنه معطوف على الحال قبله ، وهو قوله وأنتم سكارى ، عطف المفرد على الجملة لما كانت في تأويله ، وأعاد معها [ ص: 690 ] "لا " تنبيها على أن النهي عن قربان الصلاة مع كل واحدة من هذين الحالين على انفرادهما ، فالنهي عنها مع اجتماع الحالين آكد وأولى .

                                                                                                                                                                                                                                      والجنب : مشتق من الجنابة وهي البعد قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1588 - فلا تحرمني نائلا عن جنابة     فإني امرؤ وسط القباب غريب



                                                                                                                                                                                                                                      وسمي الرجل جنبا لبعده عن الطهارة ، أو لأنه ضاجع بجنبه ومس به ، والمشهور أنه يستعمل بلفظ واحد للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، ومنه الآية الكريمة . قال الزمخشري : "لجريانه مجرى المصدر الذي هو الإجناب " ومن العرب من يثنيه فيقول : "جنبان " ويجمعه سلامة فيقول : "جنبون " وتكسيرا فيقول : "أجناب " ، ومثله في ذلك : "شلل " وتقدم تحقيق ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا عابري فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب على الحال ، فهو استثناء مفرغ ، والعامل فيها فعل النهي ، والتقدير : لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة ، إلا في حال السفر أو عبور المسجد ، على حسب القولين . وقال الزمخشري : إلا عابري سبيل استثناء من عامة أحوال المخاطبين ، وانتصابه على الحال . فإن قلت : كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها ؟ قلت : كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر ، وعبور السبيل عبارة عنه " . والثاني : أنه منصوب على أنه صفة لقوله : " جنبا "وصفه بـ " إلا "بمعنى " غير "فظهر الإعراب فيما بعدها ، وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله تعالى : لو كان فيهما [ ص: 691 ] آلهة إلا الله لفسدتا كأنه قيل : لا تقربوها جنبا غير عابري سبيل أي : جنبا مقيمين غير معذورين ، وهذا معنى واضح على تفسير العبور بالسفر . وأما من قدر مواضع الصلاة فالمعنى عنده : لا تقربوا المساجد جنبا إلا مجتازين لكونه لا ممر سواه ، أو غير ذلك بحسب الخلاف .

                                                                                                                                                                                                                                      والعبور : الجواز ، ومنه : " ناقة عبر الهواجر "قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1589 - عيرانة سبح اليدين شملة     عبر الهواجر كالهزف الخاضب



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : حتى تغتسلوا كقوله : حتى تعلموا فهي متعلقة بفعل النهي . قوله : أو على سفر في محل نصب عطفا على خبر " كان "وهو " مرضى "وكذلك قوله : أو جاء أحد أو لامستم وفيه دليل على مجيء خبر " كان "فعلا ماضيا من غير " قد " ، وادعاء حذفها تكلف لا حاجة إليه ، كذا استدل به الشيخ ، ولا دليل فيه لاحتمال أن يكون " أو جاء "عطفا على " كنتم "تقديره : " وإن جاء أحد " ، وإليه ذهب أبو البقاء وهو أظهر من الأول ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      و "منكم " في محل رفع لأنه صفة لـ "أحد " ، فيتعلق بمحذوف و "من الغائط " متعلق بـ "جاء " ، فهو مفعوله . وقرأ الجمهور : "الغائط " بزنة فاعل ، وهو المكان المطمئن من الأرض ، ثم عبر به عن نفس الحدث كناية للاستحياء من ذكره ، وفرقت العرب بين الفعلين منه ، فقالت : "غاط في [ ص: 692 ] الأرض " أي : ذهب وأبعد إلى مكان لا يراه فيه إلا من وقف عليه ، وتغوط : إذا أحدث . وقرأ ابن مسعود : "من الغيط " وفيه قولان ، أحدهما : - وإليه ذهب ابن جني - أنه مخفف من فيعل كهين وميت في : هين وميت . والثاني أنه مصدر على وزن فعل قالوا : غاط يغيط غيطا ، وغاط يغوط غوطا . وقال أبو البقاء : "هو مصدر " يغوط "فكان القياس " غوطا "فقلب الواو ياء وإن سكنت وانفتح ما قبلها لخفتها " كأنه لم يطلع على أن فيه لغة أخرى من ذوات الياء حتى ادعى ذلك . وقرأ الأخوان هنا وفي المائدة : "لمستم " والباقون : "لامستم " فقيل : "فاعل " بمعنى فعل ، وقيل : لمس : جامع ، ولامس لما دون الجماع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فلم تجدوا الفاء عطفت ما بعدها على الشرط . وقال أبو البقاء : "على جاء " ، لأنه جعل "جاء " عطفا على "كنتم " فهو شرط عنده . والفاء في قوله " فتيمموا " هي جواب الشرط ، والضمير في "تيمموا " لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس أو لامس ، وفيه تغليب للخطاب على الغيبة ، وذلك أنه تقدم غيبة في قوله : أو جاء أحد وخطاب في "كنتم " و "لمستم " فغلب الخطاب في قوله "كنتم " وما بعده عليه . وما أحسن ما أتى هنا بالغيبة لأنه كناية عما يستحيا منه فلم يخاطبهم به ، وهذا من محاسن الكلام ، ونحوه : وإذا مرضت فهو يشفين . و "وجد " هنا بمعنى "لقي " فتعدت لواحد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 693 ] و "صعيدا " مفعول به لقوله : "تيمموا " أي : اقصدوا ، وقيل : هو على إسقاط حرف أي : بصعيد ، وليس بشيء لعدم اقتياسه . و " بوجوهكم " متعلق بـ "امسحوا " وهذه الباء تحتمل أن تكون زائدة ، وبه قال أبو البقاء ، ويحتمل أن تكون متعدية ، لأن سيبويه حكى : "مسحت رأسه وبرأسه " فيكون من باب : نصحته ونصحت له . وحذف الممسوح به ، وقد ظهر في آية المائدة في قوله "منه " فحمل عليه هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية