الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (140) قوله تعالى : قرح : قرأ الأخوان وأبو بكر : "قرح " بضم القاف ، وكذلك "القرح " معرفا ، والباقون بالفتح فيهما ، فقيل : هما بمعنى واحد . ثم اختلف القائلون بهذا فقال بعضهم : "المراد بهما الجرح نفسه " . وقال بعضهم : - منهم الأخفش - المراد بهما المصدر . يقال قرح الجرح يقرح قرحا وقرحا . قال امرؤ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1439 - وبدلت قرحا داميا بعد صحة لعل منايانا تحولن أبؤسا



                                                                                                                                                                                                                                      والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة غيرهم فهما كالضعف والضعف والكره والكره . وقال بعضهم : "المفتوح : الجرح ، والمضموم : ألمه " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء وهي لغة كالطرد والطرد . وقال أبو البقاء : هو مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة ، وهو بمعنى دمي . وقرئ "قرح " بضمهما . قيل : وذلك على الإتباع كاليسر واليسر والطنب والطنب .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 403 ] وقرأ الأعمش : "إن تمسسكم " بالتاء من فوق ، "قروح " بصيغة الجمع ، والتأنيث واضح . وأصل المادة الدلالة على الخلوص ومنه : الماء القراح أي : لا كدورة فيه ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1440 - فساغ لي الشراب وكنت قبلا     أكاد أغص بالماء القراح



                                                                                                                                                                                                                                      وأرض قرحة أي : خالصة الطين ومنه : قريحة الرجل لخالص طبعه . وقال الراغب : "القرح : الأثر من الجراحة ، من شيء يصيبه من خارج ، والقرح - يعني بالضم - أثرها من داخل كالبثرة ونحوها ، يقال : قرحته نحو : جرحته . قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1441 - لا يسلمون قريحا حل وسطهم     يوم اللقاء ولا يشوون من قرحوا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : جرحوا : وقرح : خرج به قرح ، وقرح الله قلبه وأقرحه - يعني : ففعل وأفعل فيه بمعنى - وفرس قارح : إذا أصابه أثر من ظهور نابه ، والأنثى : قارحة ، وروضة قرحاء إذا كان في وسطها نور ، وذلك تشبيه بالفرس القرحاء . والاقتراح : الابتداع والابتكار . ومنه قالوا : اقترح عليه فلان كذا ، واقترحت بئرا : استخرجت منها ماء قراحا ، والقريحة في الأصل : المكان الذي يجتمع فيه الماء المستنبط ، ومنه استعيرت قريحة الإنسان " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 404 ] قوله : فقد مس القوم قرح للنحويين في مثل هذا تأويل وهو أن يقدروا شيئا مستقبلا ، لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل ، وقوله فقد مس القوم قرح مثله ماض محقق ، وذلك التأويل هو التبيين : فقد تبين مس القرح للقوم ، وسيأتي له نظائر نحو : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت . وقال بعضهم "وجواب الشرط محذوف تقديره : " فتأسوا "ونحو ذلك . وقال الشيخ : " من جعل جواب الشرط "فقد مس " فهو ذاهل " . قلت : غالب النحاة جعلوه جوابا متأولين له بما ذكرت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وتلك الأيام نداولها يجوز في " الأيام "أن تكون خبرا لـ " تلك " . و " نداولها "جملة حالية العامل فيها معنى اسم الإشارة أي : أشير إليها حال كونها متداولة . ويجوز أن تكون "الأيام " بدلا أو عطف بيان أو نعتا لاسم الإشارة ، والخبر هو الجملة من قوله : نداولها ، وقد مر نحوه في قوله : تلك آيات الله نتلوها إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت لما عرفت أن اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل .

                                                                                                                                                                                                                                      و "بين " متعلق بـ "نداولها " . وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من مفعول "نداولها " وليس بشيء . والمداولة : المناوبة على الشيء والمعاودة وتعهده مرة بعد أخرى . يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه ، كأن "فاعل " بمعنى "فعل " . قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 405 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1442 - يرد المياه فلا يزال مداولا     في الناس بين تمثل وسماع



                                                                                                                                                                                                                                      وأدال فلان فلانا جعل له دولة ، ويقال : دولة ودولة بضم الفاء وفتحها ، وقد قرئ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف الناس : هل اللفظتان بمعنى أم بينهما فرق ؟ فذهب بعضهم كالراغب وغيره إلى أنهما سيان ، فيكون في المصدر لغتان . وقال غير هؤلاء : "بينهما فرق " واختلفت أقوال هؤلاء فقال بعضهم : "الدولة " بالفتح في الحرب والجاه ، وبالضم في المال ، وهذا ترده القراءاتان في سورة الحشر . وقيل : بالضم اسم الشيء المتداول ، وبالفتح نفس المصدر وهذا قريب . وقيل : الدولة بالضم هي المصدر ، وبالفتح الفعلة الواحدة فلذلك يقال "في دولة فلان " لأنها مرة في الدهر . والدور أعم من الدول ؛ لأن الدول باللام لا يكون إلا في الحظوظ الدنيوية . والدولول : الداهية ، والجمع : دأليل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وليعلم الله ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلق هذه اللام وجهين ، قال : "أحدهما : أن اللام صلة لفعل مضمر يدل عليه أول الكلام بتقدير : وليعلم الله الذين آمنوا نداولها . والثاني : أن العامل فيه " نداولها "المذكور بتقدير : نداولها بين الناس لنظهر أمرهم ولنبين أعمالهم ، وليعلم الله الذين آمنوا ، فلما ظهر معنى اللام المضمرة في " ليظهر "و " ليبين "جرت مجرى الظاهرة فجاز العطف عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أبو البقاء وجها وهو أن تكون الواو زائدة ، وعلى هذا فاللام [ ص: 406 ] متعلقة بـ " نداولها "من غير تقدير شيء . ولكن هذا لا حاجة إليه ، ولم يحتج إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع ليس هذا منها ، وبعض الكوفيين يوافقه على ذلك . وقدره الزمخشري بـ " فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم " ، فقدر عاملا وعلق به علة محذوفة عطف عليها هذه العلة . قال الشيخ : " ولم يعين فاعل العلة المحذوفة ، إنما كنى عنه بكيت وكيت ، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف ، ففي هذا الوجه حذف العلة وحذف عاملها وإبهام فاعلها ، فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل "يعني بالوجه الأول أنه قدره : " وليعلم الله فعلنا ذلك "وهو المداولة أو نيل الكفار منكم .

                                                                                                                                                                                                                                      والعلم هنا يجوز أن يتعدى لواحد قالوا : لأنه بمعنى عرف ، وهو مشكل لأنه لا يجوز وصف الله تعالى بذلك لما تقدم من أن المعرفة تستدعي جهلا بالشيء ، أو أنها متعلقة بالذوات دون الأحوال ، ويجوز أن يكون متعديا لاثنين ، فالثاني محذوف تقديره : وليعلم الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا : "يداولها " بياء الغيبة وهو موافق لما قبله ولما بعده . وقراءة العامة على الالتفات المفيد للتعظيم . قوله : "منكم " الظاهر أن "منكم " متعلق بالاتخاذ ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "شهداء " لأنه في الأصل صفة له .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية