الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (4) قوله تعالى : صدقاتهن نحلة : مفعول ثان ، وهي جمع "صدقة " بفتح الصاد وضم الدال بزنة "سمرة " ، والمراد بها المهر ، وهذه القراءة المشهورة ، وهي لغة الحجاز . وقرأ قتادة : "صدقاتهن " بضم الصاد وإسكان الدال ، جمع صدقة بزنة غرفة . وقرأ مجاهد وابن أبي عبلة بضمهما ، وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال ، وهي تثقيل الساكنة الدال للإتباع . وقرأ ابن وثاب والنخعي : "صدقتهن " بضمهما مع الإفراد . قال [ ص: 571 ] الزمخشري : "وهي تثقيل " صدقة "كقولهم في " ظلمة " : " ظلمة " . وقد تقدم لنا خلاف : هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء ؟ وقرئ : " صدقاتهن "بفتح الصاد وإسكان الدال ، وهي تخفيف القراءة المشهورة كقولهم في عضد : عضد .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي نصب " نحلة "أربعة أوجه ، أحدها : أنها منصوبة على المصدر والعامل فيها الفعل قبلها ؛ لأن " آتوهن "بمعنى انحلوهن ، فهي مصدر على غير الصدر نحو : " قعدت جلوسا " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنها مصدر واقع موقع الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات ، أحدها : أنه الفاعل في " فآتوهن "أي : فآتوهن ناحلين . الثاني : أنه المفعول الأول وهو " النساء " . الثالث : أنه المفعول الثاني وهو " صدقاتهن "أي : منحولات .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : أنها مفعول من أجله ؛ إذا فسرت بمعنى " شرعة " .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الرابع : انتصابها بإضمار فعل بمعنى شرع ، أي : نحل الله ذلك نحلة أي : شرعه شرعة ودينا .

                                                                                                                                                                                                                                      والنحلة : العطية عن طيب نفس ، والنحلة : الشرعة ، ومنه " نحلة الإسلام خير النحل " ، وفلان ينتحل بكذا أي : يدين به ، والنحلة : الفريضة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الراغب : " والنحلة والنحلة : العطية على سبيل التبرع ، وهي أخص من الهبة ، إذ كل هبة نحلة من غير عكس ، واشتقاقه فيما أرى من [ ص: 572 ] النحل نظرا إلى فعله ، فكأن "نحلته " أعطيته عطية النحل "ثم قال : " ويجوز أن تكون النحلة أصلا فسمي النحل بذلك اعتبارا بفعله "وقال الزمخشري : " من نحله كذا : أعطاه إياه ، ووهبه له عن طيب نفسه ، نحلة ونحلا ، ومنه حديث أبي بكر رضي الله عنه : "إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "منه " في محل جر ، لأنه صفة لـ "شيء " فيتعلق بمحذوف أي : عن شيء كائن منه . و "من " فيها وجهان ، أحدهما : أنها للتبعيض ، ولذلك لا يجوز لها أن تهبه كل الصداق . وإليه ذهب الليث . والثاني : أنها للبيان ، ولذلك يجوز أن تهبه كل الصداق . قال ابن عطية : "و " من "لبيان الجنس ها هنا ، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك " . انتهى . وقد تقدم أن الليث يمنع ذلك فلا يشكل كونها للتبعيض .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الضمير أقوال ، أحدها : أنه يعود على الصداق المدلول عليه بـ " صدقاتهن " . الثاني : أنه يعود على "الصدقات " لسد الواحد مسدها ، لو قيل : "صداقهن " لم يختل المعنى ، وهو شبيه بقولهم : "هو أحسن الفتيان وأجمله " لأنه لو قيل : "هو أحسن فتى " لصح المعنى ، ومثله :

                                                                                                                                                                                                                                      1539 - وطاب ألبان اللقاح وبرد

                                                                                                                                                                                                                                      في "برد " ضمير يعود على "ألبان " لسد "لبن " مسدها . الثالث : أنه يعود على "الصدقات " أيضا ، لكن ذهابا بالضمير مذهب الإشارة ، فإن اسم الإشارة قد يشار به مفردا مذكرا إلى أشياء تقدمته كقوله : قل أأنبئكم بخير [ ص: 573 ] من ذلكم بعد ذكره أشياء قبله ، وقد تقدم لك في البقرة ما حكي عن رؤبة لما قيل له في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1540 - فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق



                                                                                                                                                                                                                                      "أردت ذلك " ، فأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة . الرابع : أنه يعود على المال ، وإن لم يجر له ذكر ، لأن الصدقات تدل عليه . الخامس : أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه بـ "آتوا " قاله الراغب وابن عطية . السادس : قال الزمخشري : "ويجوز أن يذكر الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولا بعضه ، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعدا . وقال الشيخ : " وأقول حسن تذكير الضمير أن معنى "فإن طبن " : فإن طابت كل واحدة ، فلذلك قال "منه " أي : من صداقها ، وهو نظير : وأعتدت لهن متكأ أي : لكل واحدة ، ولذلك أفرد "متكأ " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "نفسا " منصوب على التمييز ، وهو هنا منقول من الفاعل ، إذ الأصل : فإن طابت أنفسهن ، ومثله : واشتعل الرأس شيبا ، وهذا منصوب عن تمام الكلام . وجيء بالتمييز هنا مفردا ، وإن كان قبله جمع لعدم اللبس ، إذ من المعلوم أن الكل لسن مشتركات في نفس واحدة ، ومثله : "قر [ ص: 574 ] الزيدون عينا " ويجوز "أنفسا " و "أعينا " . ولا بد من التعرض لقاعدة يعم النفع بها : وهي أنه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصب عن تمام الكلام فلا يخلو : إما أن يكون موافقا لما قبله في المعنى أو مخالفا له ، فإن كان الأول وجبت مطابقة التمييز لما قبله نحو : "كرم الزيدون رجالا " كما يطابقه خبرا وصفة وحالا .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان الثاني : فإما أن يكون مفرد المدلول أو مختلفه ، فإن كان مفرد المدلول وجب إفراد التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : "كرم بنو زيد أبا أو أصلا " ، أي : إن لهم جميعا أبا واحدا متصفا بالكرم ، ومثله : "كرم الأتقياء سعيا " إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله . وإن كان مختلف المدلول : فإما أن يلبس إفراد التمييز لو أفرد أو لا ، فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحد أبا غير أب الآخر يتصف بالكرم ، ولو أفردت هنا لتوهم أنهم كلهم بنو أب واحد ، والغرض خلافه . وإن لم يلبس جاز الأمران : المطابقة والإفراد ، وهو الأولى ، ولذلك جاءت عليه الآية الكريمة ، وحكم التثنية في ذلك كالجمع .

                                                                                                                                                                                                                                      وحسن الإفراد أيضا هنا ما تقدم من محسن تذكير الضمير وإفراده في "منه " وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة نفسا . وقال بعض البصريين : "إنما أفرد لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع " وقال الزمخشري : "ونفسا تمييز ، وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس ، والواحد يدل عليه " . ونحا أبو البقاء نحوه ، وشبهه بـ "درهما " في قولك : "عشرون درهما " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 575 ] واختلف النحاة في جواز تقديم التمييز على عامله إذا كان متصرفا ، فمنعه سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقولهم :


                                                                                                                                                                                                                                      1541 - أتهجر ليلى بالفراق حبيبها     وما كان نفسا بالفراق تطيب



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1542 - ... ... ... ...     إذا عطفاه ماء تحلبا



                                                                                                                                                                                                                                      والأصل : تطيب نفسا ، وتحلبا ماء . وفي البيتين كلام طويل ليس هذا محله . وحجة سيبويه في منع ذلك أن التمييز فاعل في الأصل ، والفاعل لا يتقدم فكذلك ما في قوته . واعترض على هذا بنحو : "زيدا " من قولك : "أخرجت زيدا " فإن "زيدا " في الأصل فاعل قبل النقل ، إذ الأصل : "خرج زيد " . والفرق لائح . وللتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم .

                                                                                                                                                                                                                                      والجاران في قوله : "فإن طبن لكم عن شيء متعلقان بالفعل قبلهما مضمنا معنى الإعراض ، ولذلك عدي بـ " عن "كأنه قيل : فإن أعرضن لكم عن شيء طيبات النفوس . والفاء في " فكلوه "جواب الشرط وهي واجبة ، والهاء في " فكلوه "عائدة على " شيء " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 576 ] قوله : هنيئا مريئا في نصب " هنيئا "أربعة أقوال : أحدها : أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، تقديره : أكلا هنيئا . الثاني : أنه منصوب على الحال من الهاء في " فكلوه "أي : مهنأ أي : سهلا . الثالث : أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره البتة ، لأنه قصد بهذه الحال النيابة عن فعلها نحو : " أقائما وقد قعد الناس " ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو : " سقيا له ورعيا " . الرابع : أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاء النائب عن فعله . قال الزمخشري : " وقد يوقف على "فكلوه " ويبتدأ "هنيئا مريئا " على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنئا مرءا " . قال الشيخ : "وهذا تحريف لكلام النحاة ، وتحريفه هو جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما انتصاب المصدر ، ولذلك قال : " كأنه قيل : هنئا مرءا ، فصار كقولك "سقيا لك " و "رعيا لك " ، ويدل على تحريفه وصحة قول النحاة أن المصادر المقصود بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : "سقيا الله لك " ولا : "رعيا الله لك " وإن كان ذلك جائزا في أفعالها ، و " هنيئا مريئا " يرفعان الظاهر بدليل قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1543 - هنيئا مريئا غير داء مخامر     لعزة من أعراضنا ما استحلت



                                                                                                                                                                                                                                      فـ "ما " مرفوع بـ "هنيئا " أو بـ "مريئا " على الإعمال ، وجاز ذلك وإن لم يكن بين العاملين ربط بعطف ولا غيره ، لأن "مريئا " لا يستعمل إلا تابعا لـ "هنيئا " فكأنهما عامل واحد ، ولو قلت : "قام قعد زيد " لم يكن من الإعمال إلا على نية حرف العطف " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 577 ] إلا أن في عبارة سيبويه ما يرشد لما قاله الزمخشري ، فإنه قال : " هنيئا مريئا : صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا مريئا " ، فأول العبارة يساعد الزمخشري ، وآخرها - وهو تقديره بقوله : " كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا " - يعكر عليه . فعلى القولين الأولين يكون " هنيئا مريئا "متعلقين بالجملة قبلهما لفظا ومعنى ، وعلى الآخرين مقتطعين لفظا ، لأن عاملهما مقدر من جملة أخرى كما تقدم تقريره .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف النحويون في قولك لمن قال : " أصاب فلان خيرا هنيئا له ذلك "هل " ذلك "مرفوع بالفعل المقدر تقديره : ثبت له ذلك هنيئا فحذف " ثبت "وقام " هنيئا "الذي هو حال مقامه ، أو مرفوع بـ " هنيئا "نفسه ، لأنه لما قام مقام الفعل رفع ما كان الفعل يرفعه ، كما أن قولك : " زيد في الدار " " في الدار "ضمير كان مستترا في الاستقرار ، فلما حذف الاستقرار وقام الجار مقامه رفع الضمير الذي كان فيه . ذهب إلى الأول السيرافي ، وجعل في " هنيئا "ضميرا عائدا على " ذلك " ، وذهب إلى الثاني أبو علي ، وجعل " هنيئا "فارغا من الضمير لرفعه الاسم الظاهر . وإذا قلت : " هنيئا "ولم تقل " ذلك " ، فعلى مذهب السيرافي يكون في " هنيئا "ضمير عائد على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في " ثبت "المحذوف ، وعلى مذهب الفارسي يكون في " هنيئا "ضمير فاعل بها ، وهو الضمير الذي كان فاعلا لـ " ثبت " ، ويكون " هنيئا "قد قام مقام الفعل المحذوف فارغا من الضمير .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نصب "مريئا " فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه صفة لـ "هنيئا " ، وإليه ذهب الحوفي . والثاني : أنه انتصب انتصاب "هنيئا " ، وقد تقدم ما فيه من [ ص: 578 ] الوجوه . ومنع الفارسي كونه صفة لـ "هنيئا " قال : "لأن هنيئا قام مقام الفعل والفعل لا يوصف ، فكذا ما قام مقامه " ، ويؤيد ما قاله الفارسي أن اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة والمصادر إذا وصفت لم تعمل عمل الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يستعمل "مريئا " إلا تابعا لـ "هنيئا " . ونقل بعضهم أنه قد يجيء غير تابع ، وهو مردود ، لأن العرب لم تستعمله إلا تابعا . وهل "هنيئا مريئا " في الأصل اسما فاعل على زنة المبالغة أم هما مصدران جاءا على وزن فعيل كالصهيل والهدير ؟ خلاف . نقل الشيخ القول الثاني عن أبي البقاء قال : "وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فعيل كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر " . انتهى . وأبو البقاء في عبارته إشكال فلا بد من التعرض إليها ليعرف ما فيها ، قال : "هنيئا جاء على وزن فعيل ، وهو نعت لمصدر محذوف أي : أكلا هنيئا ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء ، والتقدير : مهنأ و " مريئا "مثله ، والمريء فعيل بمعنى مفعل ، لأنك تقول : " أمرأني الشيء " . ووجه الإشكال : أنه بعد الحكم عليهما بالمصدرية كيف يجعلهما وصفين لمصدر محذوف ، وكيف يفسر " مريئا "المصدر بمعنى اسم الفاعل ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الزمخشري إلى أنهما وصفان ، قال : " الهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 579 ] وهنا يهنا - بغير همز - لغة ثانية أيضا . ويقال : هنأني الطعام ومرأني ، فإن أفردت " مرأني "لم يستعمل إلا رباعيا فتقول " أمرأني "وإنما استعمل ثلاثيا للتشاكل مع " هنأني " ، وهذا كما قالوا : " أخذه ما قدم وما حدث "بضم دال " حدث "مشاكلة لـ " قدم " ، ولو أفرد لم يستعمل إلا مفتوح الدال ، وله نظائر أخر . ويقال : هنأت الرجل أهنئه بكسر العين في المضارع أي : أعطيته . واشتقاق الهنيء من الهناء وهو ما يطلى به البعير من الجرب ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1544 - متبذلا تبدو محاسنه     يضع الهناء مواضع النقب



                                                                                                                                                                                                                                      والمريء : ما ساغ وسهل في الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة : مريء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية