الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (144) قوله تعالى : وما محمد إلا رسول : "ما " نافية ولا عمل لها هنا مطلقا أعني على لغة الحجازيين والتميميين ، لأن التميميين لا يعملونها البتة ، والحجازيون يعملونها بشروط منها : ألا ينتقض النفي بـ "إلا " ، إذ يزول السبب الذي عملت لأجله وهو شبهها بـ "ليس " في نفي الحال ، فيكون " محمد " مبتدأ ، و "رسول " خبره ، هذا هو مذهب الجمهور ، أعني إهمالها إذا نقض نفيها ، وقد أجاز إعمالها منتقضة النفي بإلا يونس وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      1452 - وما الدهر إلا منجنونا بأهله وما صاحب الحاجات إلا معذبا



                                                                                                                                                                                                                                      فنصب "منجنونا " و "معذبا " على خبر "ما " ، وهما بعد "إلا " ، ومثله قول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1543 - وما حق الذي يعتو نهارا     ويسرق ليله إلا نكالا



                                                                                                                                                                                                                                      فـ "حق " اسم "ما " و "نكالا " خبرها . وتأول الجمهور هذه الشواهد على أن الخبر محذوف ، وهذا المنصوب معمول لذلك الخبر المحذوف [ ص: 415 ] والتقدير : وما الدهر إلا يدور دوران منجنون ، فحذف الفعل الناصب لـ "دوران " ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ، وكذا "إلا معذبا " تقديره : يعذب تعذيبا ، فحذف الفعل وأقيم "معذبا " مقام "تعذيب " كقوله : ومزقناهم كل ممزق أي : كل تمزيق ، وكذا "إلا نكالا " وفيه التكلف ما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قد خلت في هذه الجملة وجهان ، أظهرهما : أنها في محل رفع صفة لـ "رسول " . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في "رسول " ، وفيه نظر لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد فلا تتحمل ضميرا .

                                                                                                                                                                                                                                      و "من قبله " : فيه وجهان أيضا ، أحدهما : أنه متعلق بـ "خلت " . والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "الرسل " مقدما عليها ، وهي حينئذ حال مؤكدة ، لأن ذكر الخلو يشعر بالقبلية . وقرأ ابن عباس : "رسل " بالتنكير . قال أبو الفتح : "ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وهكذا يفعل في أماكن الاقتصاد نحو : وقليل من عبادي الشكور وما آمن معه إلا قليل وقال أبو البقاء : " وهو قريب من معنى المعرفة "كأنه يريد أن المراد بالرسل الجنس ، فالنكرة قريبة منه بهذه الحيثية ، وقراءة الجمهور أولى لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 416 ] قوله : أفإن مات الهمزة لاستفهام الإنكار ، والفاء للعطف ورتبتها التقديم لأنها حرف عطف ، وإنما قدمت الهمزة لأنها لها صدر الكلام ، وقد تقدم تحقيق ذلك ، وأن الزمخشري يقدر بينهما فعلا محذوفا تعطف الفاء عليه ما بعدها . وقال ابن خطيب زملكي : "الأوجه أن يقدر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء تكون الفاء عاطفة عليه ، ولو صرح به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم " وهذا هو مذهب الزمخشري ، إلا أن الزمخشري هنا عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة فإنه قال : "الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه " فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله : قد خلت من غير تقدير جملة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء قريبا من هذا فإنه قال : "الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلق الشرط بما قبله " . انتهى . لا يقال : إنه جعل الهمزة في موضعها فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها لأنه جعل هذا مقابلا لمذهب يونس ، فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة في مثل هذا التركيب داخلة على جواب الشرط ، فهي في مذهبه [في ] غير موضعها . وسيأتي تحرير هذا كله .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 417 ] و "إن " شرطية . و "مات " و "انقلبتم " شرط وجزاء ، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يغير شيئا من حكمها ، وزعم يونس أن الفعل الثاني الذي هو جزاء الشرط ليس بجزاء للشرط ، إنما هو المستفهم عنه ، وأن الهمزة داخلة عليه تقديرا فينوى به التقديم وحينئذ فلا يكون جوابا ، بل الجواب محذوف ، ولا بد إذ ذاك من أن يكون فعل الشرط ماضيا ، إذ لا يحذف الجواب إلا والشرط ماض ، ولا اعتبار بالشعر فإنه ضرورة ، فلا يجوز عنده أن تقول : "أإن تكرمني أكرمك " [لا بجزمهما ولا بجزم الأول ورفع الثاني ] لأن الشرط مضارع ، ولا : "أإن أكرمتني أكرمك " بجزم "أكرمك " لأنه ليس الجواب بل دالا عليه ، والنية به التقديم ، فإن رفعت "أكرمك " وقلت : "أإن أكرمتني أكرمك " صح عنده ، فالتقدير عند يونس : آنقلبتم على أعقابكم إن مات محمد ؟ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته .

                                                                                                                                                                                                                                      وبقول يونس قال كثير من المفسرين ، فإنهم يقولون : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو : أتنقلبون إن مات محمد " . وقال أبو البقاء : " وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط تقديره : "أتنقلبون إن مات " ؛ لأن الغرض التنبيه أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط . ومذهب سيبويه الحق لوجهين ، أحدهما : أنك لو قدمت الجواب لم يكن للفاء وجه إذ لا يصح أن تقول : "أتزوروني فإن زرتك " ، ومنه قوله تعالى : أفإن مت فهم الخالدون ، والثاني : أن الهمزة لها صدر الكلام ، و "إن " لها صدر الكلام ، فقد وقعا في موضعهما ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب ، لأنهما كالشيء [ ص: 418 ] الواحد "انتهى . وقد رد النحويون على يونس بقوله : أفإن مت فهم الخالدون فإن الفاء في قوله : " فهم "تعين أن يكون جوابا للشرط . ولهذه المسألة موضع هو أليق بها من هذا الكتاب . وأتى هنا بـ " إن "التي تقتضي الشك ، والموت أمر محقق ، إلا أنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين الموت والقتل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : على أعقابكم فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلق بـ " انقلبتم " . والثاني : أنه حال من فاعل " انقلبتم "كأنه قيل : انقلبتم راجعين . وقرأ ابن أبي إسحاق : " ومن ينقلب على عقبه "بالإفراد . و " شيئا "نصب على المصدر أي : شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا . وقد تقدم نظيره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية