الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (24) قوله تعالى : والمحصنات : قرأ الجمهور هذه اللفظة سواء كانت معرفة بـ "أل " أم نكرة بفتح الصاد ، والكسائي بكسرها في الجمع إلا قوله والمحصنات من النساء في رأس الجزء فإنه وافق الجمهور . فأما الفتح ففيه وجهان ، أشهرهما : أنه أسند الإحصان إلى غيرهن ، وهو إما [ ص: 646 ] الأزواج أو الأولياء ، فإن الزوج يحصن امرأته أي : يعفها ، والولي يحصنها بالتزويج أيضا والله يحصنها بذلك . والثاني : أن هذا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور ، يعني أنه اسم فاعل ، وإنما شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ : أحصن فهو محصن وألقح فهو ملقح ، وأسهب فهو مسهب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الكسر فإنه أسند الإحصان إليهن ؛ لأنهن يحصن أنفسهن بعفافهن ، أو يحصن فروجهن بالحفظ ، أو يحصن أزواجهن . وأما استثناء الكسائي التي في رأس الجزء قال : "لأن المراد بهن المزوجات فالمعنى : أن أزواجهن أحصنوهن ، فهن مفعولات " ، وهذا على أحد الأقوال في المحصنات هنا من هن ؟ على أنه قد قرئ شاذا - التي في رأس الجزء بالكسر أيضا ، وإن أريد بهن المزوجات ؛ لأن المراد أحصن أزواجهن أو فروجهن ، وهو ظاهر . وقرأ يزيد بن قطيب : و "المحصنات " بضم الصاد ، كأنه لم يعتد بالساكن فأتبع الصاد للميم كقولهم : "منتن " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل هذه المادة الدلالة على المنع ومنه "الحصن " لأنه يمنع به ، و "حصان " للفرس من ذلك . ويقال : أحصنت المرأة وحصنت ، ومصدر حصنت : "حصن " عن سيبويه و "حصانة " عن الكسائي وأبي عبيدة ، واسم الفاعل من أحصنت محصنة ، ومن حصنت حاصن ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1569 - وحاصن من حاصنات ملس من الأذى ومن قراف الوقس



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 647 ] ويقال لها : "حصان " أيضا بفتح الحاء ، قال حسان يصف عائشة رضي الله عنها :


                                                                                                                                                                                                                                      1570 - حصان رزان ما تزن بريبة     وتصبح غرثى من لحوم الغوافل



                                                                                                                                                                                                                                      والإحصان في القرآن ورد ، ويراد به أحد أربعة معان : التزوج والعفة والحرية والإسلام ، وهذا تنفعك معرفته في الاستثناء الواقع بعده : فإن أريد به هنا التزوج كان المعنى : وحرمت عليكم المحصنات أي : المزوجات إلا النوع الذي ملكته أيمانكم : إما بالسبي أو بملك من شري وهبة وإرث ، وهو قول بعض أهل العلم ، ويدل على الأول قول الفرزدق :


                                                                                                                                                                                                                                      1571 - وذات حليل أنكحتها رماحنا     حلال لمن يبني بها لم تطلق



                                                                                                                                                                                                                                      يعني : أن مجرد سبائها أحلها بعد الاستبراء . وإن أريد به الإسلام أو العفة فالمعنى أن المسلمات أو العفيفات حرام كلهن ، يعني فلا يزنى بهن إلا ما ملك منهن بتزويج أو ملك يمين ، فيكون المراد بـ ما ملكت أيمانكم التسلط عليهن وهو قدر مشترك ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكون الاستثناء متصلا . وإن أريد به الحرائر فالمراد إلا ما ملكت بملك اليمين ، وعلى هذا فالاستثناء منقطع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : من النساء في محل نصب على الحال كنظيره المتقدم . وقال [ ص: 648 ] مكي : "فائدة قوله من النساء أن المحصنات تقع على الأنفس ، فقوله من النساء يرفع ذلك الاحتمال ، والدليل على أنه يراد بالمحصنات الأنفس قوله : والذين يرمون المحصنات فلو أريد به النساء خاصة لما حد من قذف رجلا بنص القرآن ، وقد أجمعوا على أن حده بهذا النص " . انتهى . وهذا كلام عجيب لأنه بعد تسليم ما قاله في آية النور كيف يتوهم ذلك هنا أحد من الناس ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كتاب الله في نصبه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه منصوب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة قبله وهي قوله : "حرمت " ، ونصبه بفعل مقدر أي : كتب الله ذلك عليكم كتابا . وأبعد عبيدة السلماني في جعله هذا المصدر مؤكدا لمضمون الجملة من قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه منصوب على الإغراء بـ "عليكم " والتقدير : عليكم كتاب الله أي : الزموه كقوله : عليكم أنفسكم ، وهذا رأي الكسائي ومن تابعه ، أجازوا تقديم المنصوب في باب الإغراء مستدلين بهذه الآية ، وبقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1572 - يا أيها المائح دلوي دونكا     إني رأيت الناس يحمدونكا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 649 ] فـ "دلوي " منصوب بـ "دونك " وقد تقدم . والبصريون يمنعون ذلك ، قالوا : لأن العامل ضعيف ، وتأولوا الآية على ما تقدم ، والبيت على أن "دلوي " منصوب بـ "المائح " أي : الذي ماح دلوي .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : الزموا كتاب الله ، وهذا قريب من الإغراء . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : "تقديره : الزموا كتاب الله " و "عليكم " إغراء ، يعني أن مفعوله قد حذف للدلالة بـ "كتاب الله " عليه ، أي : عليكم ذلك ، فيكون أكثر تأكيدا . وأما "عليكم " فقال أبو البقاء : إنها على القول بأن "كتاب " مصدر يتعلق بذلك الفعل المقدر الناصب لـ "كتاب " ولا يتعلق بالمصدر "قال : " لأنه هنا فضلة " . قال : " وقيل : يتعلق بنفس المصدر لأنه ناب عن الفعل ، حيث لم يذكر معه فهو كقولك : مرورا بزيد قلت : وأما على القول بأنه إغراء فلا محل له لأنه واقع موقع فعل الأمر ، وأما على القول بأنه منصوب بإضمار فعل أي : الزموا فـ "عليكم " متعلق بنفس "كتاب " أو بمحذوف على أنه حال منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو حيوة "كتب الله " على أن "كتب " فعل ماض ، و "الله " فاعل به ، وهي تؤيد كونه منصوبا على المصدر المؤكد . وقرأ ابن السميفع اليماني : "كتب الله " جعله جمعا مرفوعا مضافا لله تعالى على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه كتب الله عليكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأحل قرأ الأخوان وحفص عن عاصم : "أحل " مبنيا للمفعول ، والباقون مبنيا للفاعل ، وكلتا القراءتين الفعل فيهما معطوف على [ ص: 650 ] الجملة الفعلية من قوله : "حرمت " والمحرم والمحلل هو الله تعالى في الموضعين ، سواء صرح بإسناد الفعل إلى ضميره أو حذف الفاعل للعلم به .

                                                                                                                                                                                                                                      وادعى الزمخشري أن قراءة "أحل " مبنيا للمفعول عطف على "حرمت " ليعطف فعل مبني للمفعول على مثله ، وأما على قراءة بنائه للفاعل فجعله معطوفا على الفعل المقدر الناصب لـ "كتاب " كأنه قيل : كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم ما وراء ذلكم . قال الشيخ : "وما اختاره - يعني من التفرقة بين القراءتين - غير مختار ؛ لأن الناصب لـ " كتاب الله "جملة مؤكدة لمضمون الجملة من قوله " حرمت "إلى آخره ، وقوله " وأحل لكم "جملة تأسيسية فلا يناسب أن تعطف إلا على تأسيسية مثلها لا على جملة مؤكدة ، والجملتان هنا متقابلتان ، إذ إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل ، فالمناسب أن تعطف إحداهما على الأخرى لا على جملة أخرى غير الأولى ، وقد فعل هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول فليكن هذا مثله " وفي هذا الرد نظر .

                                                                                                                                                                                                                                      و ما وراء ذلكم مفعول به : إما منصوب المحل أو مرفوعه على حسب القراءتين في "أحل " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أن تبتغوا في محله ثلاثة أوجه : الرفع والنصب والجر ، فالرفع على أنه بدل من ما وراء ذلكم على قراءة "أحل " مبنيا للمفعول ؛ لأن "ما " حينئذ قائمة مقام الفاعل ، وهذا بدل منها بدل اشتمال . وأما النصب فالأجود أن يكون على أنه بدل من "ما " المتقدمة على قراءة "أحل " مبنيا للفاعل ، كأنه [ ص: 651 ] قال : وأحل الله لكم الابتغاء بأموالكم من تزويج أو ملك يمين . وأجاز الزمخشري أن يكون نصبه على المفعول من أجله ، قال "بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم محصنين " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنحى عليه الشيخ ، وجعله إنما قصد بذلك دسيسة الاعتزال ثم قال : "وظاهر الآية غير ما فهمه ، إذ الظاهر أنه تعالى أحل لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان لا حالة السفاح ، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب " أن تبتغوا "مفعولا له ، لأنه فات شرط من شروط المفعول له وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له ، لأن الفاعل بـ " أحل "هو الله تعالى والفاعل في " تبتغوا "ضمير المخاطبين فقد اختلفا ، ولما أحس الزمخشري - إن كان أحس - جعل " أن تبتغوا "على حذف " إرادة "حتى يتحد الفاعل في قوله " وأحل "وفي المفعول له ، ولم يجعل " أن تبتغوا "مفعولا له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا أدري ما هذا التحمل ، ولا كيف يخفى على أبي القاسم شرط اتحاد الفاعل في المفعول له حتى يقول "إن كان أحس " !!!

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء فيه النصب على حذف حرف الجر ، قال أبو البقاء : "وفي " ما "- يعني من قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم - وجهان ، أحدهما : هي بمعنى " من " ، فعلى هذا يكون قوله " أن تبتغوا "في موضع جر أو نصب على تقدير : بأن تبتغوا أو لأن تبتغوا ، أي : أبيح لكم غير من ذكرنا من النساء [ ص: 652 ] بالمهور ، والثاني : أن " ما "بمعنى الذي ، والذي كناية عن الفعل أي : وأحل لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم ، و " أن تبتغوا "بدل منه ، ويجوز أن يكون أصله بأن تبتغوا ، أو لأن تبتغوا . وفي ما قاله نظر لا يخفى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الجر فعلى ما ذكره أبو البقاء . وقد تقدم ما فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      و محصنين حال من فاعل " تبتغوا " ، و " غير مسافحين "حال ثانية ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في " محصنين " ، ومفعول محصنين ومسافحين محذوف أي : محصنين فروجكم غير مسافحين الزواني ، وكأنها في الحقيقة حال مؤكدة لأن المحصن غير مسافح . ولم يقرأ أحد بفتح الصاد من " محصنين "فيما علمت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فما استمتعتم به يجوز في " ما "وجهان ، أحدهما : أن تكون شرطية . والثاني : أن تكون موصولة . وعلى كلا التقديرين فيجوز أن يكون المراد بها النساء المستمتع بهن أي : النوع المستمتع به ، وأن يراد بها الاستمتاع الذي هو الحدث . وعلى جميع الأوجه المتقدمة فهي في محل رفع بالابتداء ، فإن كانت شرطية ففي خبرها الخلاف المشهور : هل هو فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما ؟ وقد تقدم تحقيقه في البقرة . وإن كانت موصولة فالخبر قوله : فآتوهن ، ودخلت الفاء لشبه الموصول باسم الشرط ، وقد تقدم أيضا تحقيقه . ثم إن أريد بها النوع المستمتع به فالعائد على المبتدأ - سواء كانت " ما "شرطا أو موصولة - الضمير المنصوب في " فآتوهن " ، ويكون قد راعى لفظ " ما "تارة فأفرد في قوله " به "ومعناها أخرى ، فجمع في قوله " منهن " [ ص: 653 ] و " فآتوهن " ، فيصير المعنى : أي نوع من النساء استمتعتم به فآتوهن ، أو النوع الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن ، وإن أريد بها الاستمتاع فالعائد حينئذ محذوف تقديره : فأي نوع من الاستمتاع استمتعتم به من النساء فآتوهن أجورهن لأجله ، أو : أي نوع من الاستمتاع الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن أجورهن لأجله .

                                                                                                                                                                                                                                      و "من " في "منهم " تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون للبيان . والثاني : أن تكون للتبعيض ، ومحلها النصب على الحال من الهاء في "به " ولا يجوز في "ما " أن تكون مصدرية لفساد المعنى ، ولعود الضمير في "به " عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      والسفاح : الزنا ، وأصله الصب ، لأن الزاني يصب فيه ، وكانوا يقولون : سافحيني وماذيني . والمسافح : من تظاهر بالزنا ، ومتخذ الأخدان من تستر فاتخذ واحدة خفية .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فريضة حال من "أجورهن " أو مصدر مؤكد أي : فرض الله ذلك فريضة ، أو مصدر على غير الصدر ؛ لأن الإيتاء مفروض فكأنه قيل : فآتوهن أجورهن إيتاء مفروضا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية