الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (33) قوله تعالى : ولكل جعلنا : فيه ستة أوجه ، وذلك يستدعي مقدمة قبله ، وهو أن "كل " لا بد لها من شيء تضاف إليه . واختلفوا في تقديره : قيل : تقديره : "ولكل إنسان " ، وقيل : لكل مال ، وقيل : لكل قوم ، فإن كان التقدير : "لكل إنسان " ففيه ثلاثة أوجه ، أحدها : "ولكل إنسان موروث جعلنا موالي " أي : وراثا مما ترك ، ففي "ترك " ضمير عائد على "كل " وهنا تم الكلام ، ويتعلق "مما ترك " بـ " موالي " لما فيه من معنى الوراثة ، أو بفعل مقدر أي : يرثون مما . و"موالي " مفعول أول لـ "جعل " بمعنى صير ، و "لكل " جار ومجرور هو المفعول الثاني قدم على عامله ، ويرتفع "الوالدان " على خبر مبتدأ محذوف ، أو بفعل مقدر أي : يرثون مما ، كأنه قيل : ومن الوارث ؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون ، والأصل : "وجعلنا لكل ميت وراثا يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن التقدير : " ولكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما ترك ذلك الإنسان "ثم بين الإنسان المضاف إليه " كل "بقوله : الوالدان ، كأنه قيل : ومن هو هذا الإنسان الموروث ؟ فقيل : الوالدان والأقربون . والإعراب كما تقدم في الوجه قبله . وإنما الفرق بينهما أن الوالدين في الأول وارثون ، وفي الثاني [ ص: 668 ] موروثون ، وعلى هذين الوجهين فالكلام جملتان ، ولا ضمير محذوف في " جعلنا " ، و " موالي "مفعول أول ، و " لكل "مفعول ثان .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يكون التقدير : ولكل إنسان وارث ممن تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي : موروثين ، فيراد بالمولى الموروث ، ويرتفع " الوالدان " بـ " ترك " ، وتكون " ما "بمعنى " من " ، والجار والمجرور صفة للمضاف إليه " كل " ، والكلام على هذا جملة واحدة ، وفي هذا بعد كبير .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : وإن كان التقدير : " ولكل قوم "فالمعنى : ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما تركه والدهم وأقربوهم ، فـ " لكل "خبر مقدم ، و " نصيب "مبتدأ مؤخر ، و " جعلناهم "صفة لقوم ، والضمير العائد عليهم مفعول " جعل "و " موالي " : إما ثان وإما حال ، على أنها بمعنى " خلقنا ، و "مما ترك " صفة للمبتدأ ، ثم حذف المبتدأ وبقيت صفته ، وحذف المضاف إليه "كل " وبقيت صفته أيضا ، وحذف العائد على الموصوف . ونظيره : "لكل خلقه الله إنسانا من رزق الله " أي : لكل أحد خلقه الله إنسانا نصيب من رزق الله .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : وإن كان التقدير : "ولكل مال " فقالوا : يكون المعنى : ولكل مال مما تركه الولدان والأقربون جعلنا موالي أي : وراثا يلونه ويحوزونه ، وجعلوا "لكل " متعلقة بـ "جعل " ، و "مما ترك " صفة لـ "كل " ، الوالدان فاعل بـ "ترك " فيكون الكلام على هذا وعلى الوجهين قبله كلاما واحدا ، وهذا وإن كان حسنا إلا أن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف . قال الشيخ : "وهو نظير قولك : " بكل رجل مررت تميمي "وفي جواز ذلك نظر " . قلت : ولا يحتاج إلى نظر ؛ لأنه قد وجد الفصل بين الموصوف وصفته بالجملة العاملة في المضاف إلى الموصوف ، كقوله تعالى : [ ص: 669 ] قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات فـ "فاطر " صفة لـ "الله " ، وقد فصل بينهما بـ "أتخذ " العامل في "غير " فهذا أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      السادس : أن يكون "لكل مال " مفعولا ثانيا لـ "جعل " على أنها تصييرية ، و "موالي " مفعول أول ، والإعراب على ما تقدم . وهذا نهاية ما قيل في هذه الآية فلله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " والذين عاقدت " في محله أربعة أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ والخبر قوله : " فآتوهم " . الثاني : أنه منصوب على الاشتغال بإضمار فعل ، وهذا أرجح من حيث إن بعده طلبا . والثالث : أنه مرفوع عطفا على " الوالدان والأقربون " فإن أريد بالوالدين أنهم موروثون عاد الضمير من "فآتوهم " على "موالي " ، وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على "موالي " وعلى الوالدين وما عطف عليهم . الرابع : أنه منصوب عطفا على "موالي " ، قال أبو البقاء : "أي وجعلنا الذين عاقدت وراثا ، وكان ذلك ونسخ " ، ورد عليه الشيخ بفساد العطف ، قال : "إذ يصير التقدير : ولكل إنسان ، أو لكل شيء من المال جعلنا وراثا والذين عاقدت أيمانكم " ثم قال : "فإن جعل من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أي : جعلنا وراثا لكل شيء من المال ، أو لكل إنسان ، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم وراثا ، وفيه بعد ذلك تكلف " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الكوفيون : "عقدت " والباقون : "عاقدت " بألف ، وروي عن [ ص: 670 ] حمزة التشديد في "عقدت " . والمفاعلة هنا ظاهرة لأن المراد المحالفة . والمفعول محذوف على كل من القراءات ، أي : عاقدتهم أو عقدت حلفهم ونسبة المعاقدة أو العقد إلى الأيمان مجاز ، سواء أريد بالأيمان الجارحة أم القسم . وقيل : ثم مضاف محذوف أي : عقدت ذوو أيمانكم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية