الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 72 ] آ . (18) قوله تعالى : شهد الله : العامة على "شهد " فعلا ماضيا مبنيا للفاعل ، والجلالة الكريمة رفع به . وقرأ أبو الشعثاء : "شهد " مبنيا للمفعول ، والجلالة المعظمة قائمة مقام الفاعل ، وعلى هذه القراءة ، فيكون أنه لا إله إلا هو في محل رفع بدلا من اسم الله تعالى بدل اشتمال ، تقديره : شهد وحدانية الله وألوهيته ، ولما كان المعنى على هذه القراءة كذا أشكل عطف والملائكة وأولو العلم على الجلالة الكريمة ، فخرج ذلك على عدم العطف ، بل : إما على الابتداء والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : والملائكة وأولو العلم يشهدون بذلك ، يدل عليه قوله تعالى : شهد الله ، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف ، تقديره : وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك ، وهو قريب من قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال في قراءة من بناه للمفعول ، وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1201 - ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      في أحد الوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو المهلب عم محارب بن دثار : "شهداء الله " جمعا على فعلاء [ ص: 73 ] كظرفاء منصوبا ، وروي عنه وعن أبي نهيك كذلك ، إلا أنه مرفوع ، وفي كلتا القراءتين مضاف للجلالة . فأما النصب فعلى الحال ، وصاحبها هو الضمير المستتر في "المستغفرين " قاله ابن جني ، وتبعه غيره كالزمخشري وأبي البقاء . وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ ، أي : هم شهداء الله . و "شهداء " يحتمل أن يكون جمع شاهد كشاعر وشعراء ، وأن يكون جمع شهيد كظريف وظرفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو المهلب أيضا في رواية : "شهدا الله " بضم الشين والهاء والتنوين ونصب الجلالة المعظمة ، وهو منصوب على الحال ، جمع شهيد نحو : نذير ونذر ، واسم الله منصوب على التعظيم أي : يشهدون الله أي : وحدانيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى النقاش أنه قرئ كذلك ، إلا أنه قال : "برفع الدال ونصبها " والإضافة للجلالة المعظمة . فالنصب والرفع على ما تقدم في "شهداء " ، وأما الإضافة فتحتمل أن تكون محضة ، بمعنى أنك عرفتهم بإضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل ، كقولك : عباد الله ، وأن تكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة . وقد نقل الزمخشري أنه قرئ : "شهداء لله " جمعا على فعلاء وزيادة لام جر داخلة على اسم الله ، وفي الهمزة الرفع والنصب وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 74 ] وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع "الملائكة " وما بعدها ثلاثة أوجه ، أحدها الابتداء والخبر محذوف . والثاني : أنه فاعل بفعل مقدر وقد تقدم تحريرها . الثالث - ذكره الزمخشري - : وهو النسق على الضمير المستكن في "شهداء الله " قال : "وجاز ذلك لوقوع الفاصل بينهما " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "أنه " العامة على فتح الهمزة ، وإنما فتحت لأنها على حذف حرف ، الجر ، أي : شهد الله بأنه لا إله إلا هو ، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصبا وأن يكون محلها جرا كما تقدم تقديره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس : "إنه " بكسر الهمزة ، وفيها تخريجان ، أحدهما : إجراء "شهد " مجرى القول لأنه بمعناه ، وكذا وقع في التفسير : شهد الله أي : قال الله ، ويؤيده ما نقله المؤرج أن "شهد " بمعنى "قال " لغة قيس بن عيلان . والثاني : أنها جملة اعتراض بين العامل وهو شهد وبين معموله وهو قوله إن الدين عند الله الإسلام ، وجاز ذلك لما في هذه الجملة من التأكيد وتقوية المعنى ، وهذا إنما يتجه على قراءة فتح "أن " من "أن الدين " ، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز ، فيتعين الوجه الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "أنه " يحتمل العود على الباري لتقدم ذكره ، ويحتمل أن يكون ضمير الأمر ، ويؤيد ذلك قراءة عبد الله : شهد الله أن لا إله إلا هو فأن مخففة في هذه القراءة ، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن ويحذف حينئذ ، ولا تعمل في غيره إلا ضرورة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 75 ] وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو "هو " في واو النسق بعدها وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في البقرة عند قوله : هو والذين آمنوا معه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قائما بالقسط في نصبه أربعة أوجه أحدها : أنه منصوب على الحال ، واختلف القائل بذلك : فبعضهم جعله حالا من اسم الله ، فالعامل فيها "شهد " . قال الزمخشري : "وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه كقوله تعالى : وهو الحق مصدقا . قال الشيخ : " وليس من باب الحال المؤكدة لأنه ليس من باب : ويوم يبعث حيا ولا من باب "أنا عبد الله شجاعا " فليس "قائما بالقسط " بمعنى شهد ، وليس مؤكدا لمضمون الجملة السابقة في نحو : أنا عبد الله شجاعا وهو زيد شجاعا ، لكن في هذا التخريج قلق في التركيب ، إذ يصير كقولك : "أكل زيد طعاما وعائشة وفاطمة جائعا " فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول ، وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف ، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : مؤاخذته له في قوله : " مؤكدة "غير ظاهر ، وذلك أن الحال على قسمين : إما مؤكدة وإما مبينة ، وهي الأصل ، فالمبينة لا جائز أن تكون ها هنا ، لأن المبينة تكون متنقلة ، والانتقال هنا محال ، إذ عدل الله تعالى لا يتغير ، فإن قيل لنا قسم ثالث ، وهي الحال اللازمة فكان للزمخشري مندوحة عن قوله " مؤكدة " إلى قوله " لازمة "فالجواب أن كل مؤكدة لازمة وكل لازمة مؤكدة [ ص: 76 ] فلا فرق بين العبارتين ، وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله : " لازمة " ، ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : "ليس معنى قائما بالقسط معنى شهد " ممنوع بل معنى "شهد " مع متعلقه وهو أنه لا إله إلا هو مساو لقوله "قائما بالقسط " لأن التوحيد ملازم للعدل .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الزمخشري : "فإن قلت : لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ، ولو قلت : " جاءني زيد وعمرو راكبا "لم يجز ؟ قلت : إنما جاز هذا لعدم الإلباس كما جاز في قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة إن انتصب " نافلة "حالا عن " يعقوب "ولو قلت : " جاءني زيد وهند راكبا "جاز لتميزه بالذكورة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " وما ذكره من قوله : "جاءني زيد وعمرو راكبا " أنه لا يجوز ليس كما ذكر ، بل هذا جائز لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل أو ما أشبه ذلك ، وإذا كان قيدا فإنه يحمل على أقرب مذكور ، ويكون "راكبا " حالا مما يليه ، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة ، لو قلت : "جاءني زيد وعمرو الطويل " كان "الطويل " صفة لعمرو ، ولا تقول : لا تجوز هذه المسألة للبس ، إذ لا لبس في هذا وهو جائز ، وكذلك الحال . وأما قوله : "إن نافلة " انتصب حالا عن يعقوب "فلا يتعين أن يكون حالا عن يعقوب ؛ إذ يحتمل أن يكون " نافلة "مصدرا كالعاقبة والعافية ، ومعناه : زيادة ، فيكون ذلك شاملا لإسحاق ويعقوب لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره " قلت : مراد الزمخشري بمنع "جاءني زيد وعمرو راكبا " إذ أريد أن الحال منهما معا ، أما [ ص: 77 ] إذا أريد أنها حال من واحد منهما فإنما تجعل لما تليه ، لعود الضمير على أقرب مذكور ، وبعضهم جعله حالا من "هو " قال الزمخشري : "فإن قلت : قد جعلته حالا من فاعل " شهد "فهل يصح أن ينتصب حالا عن " هو "في " لا إله إلا هو " ؟ قلت : نعم لأنها حال مؤكدة ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها كقولك : " أنا عبد الله شجاعا " . انتهى . يعني أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئا من الجملة السابقة قبلها ، إنما ينتصب بعامل مضمر ، فإن كان المتكلم مخبرا عن نفسه نحو : " أنا عبد الله شجاعا "قدرته : أحق شجاعا ، مبنيا للمفعول ، وإن كان مخبرا عن غيره قدرته مبنيا للفاعل نحو : " هذا عبد الله شجاعا "أي : أحقه ، هذا هو المذهب المشهور في نصب مثل هذه الحال . وفي المسألة قول ثان لأبي إسحاق أن العامل فيها هو خبر المبتدأ لما ضمن من معنى المشتق إذ هو بمعنى المسمى . وقول ثالث : أن العامل فيها المبتدأ لما ضمن من معنى التنبيه ، وهي مسألة طويلة . وبعضهم جعله حالا من الجميع على اعتبار كل واحد واحد قائما بالقسط ، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله تعالى دون ما عطف عليه . وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز "جاء القوم راكبا " أي : كل واحد منهم راكبا ، والعرب لا تقول ذلك البتة ، ففسد هذا ، فهذه ثلاثة أوجه في صاحب الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني من أوجه نصب "قائما " نصبه على النعت للمنفي بلا ، كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو . قال الزمخشري : "فإن قلت : هل يجوز [ ص: 78 ] أن يكون صفة للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو ؟ قلت : لا يبعد ، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف " ثم قال : "وهو أوجه من انتصابه عن فاعل " شهد " ، وكذلك انتصابه على المدح " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : وكان الزمخشري قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : "لا رجل إلا عبد الله شجاعا قال : " وهذا الذي ذكره لا يجوز لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما "والملائكة وأولو العلم " وليسا معمولين لشيء من جملة "لا إله إلا هو " بل هما معمولان لشهد ، وهو نظير : "عرف زيد أن هندا خارجة وعمرو وجعفر التميمية " فيفصل بين "هند والتميمية " بأجنبي ليس داخلا في حيز ما عمل فيها ، وذلك الأجنبي هو "وعمرو وجعفر " المرفوعان المعطوفان على "زيد " . وأما المثال الذي مثل به وهو "لا رجل إلا عبد الله شجاعا " فليس نظير تخريجه في الآية ، لأن قولك "إلا عبد الله " بدل على الموضع من "لا رجل " فهو تابع على الموضع ، فليس بأجنبي ، على أن في جواز هذا التركيب نظرا ، لأنه بدل و "شجاعا " وصف ، والقاعدة أنه إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف ؛ وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على الصحيح ، فصار من جملة أخرى على هذا المذهب " .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : نصبه على المدح . قال الزمخشري : " فإن قلت : أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة ، كقولك : "الحمد لله الحميد " "إنا معاشر الأنبياء لا نورث " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 79 ] [وقوله ] :


                                                                                                                                                                                                                                      1202 - إنا بني نهشل لا ندعي لأب      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      قلت قد جاء نكرة كما جاء معرفة ، وأنشد سيبويه مما جاء منه نكرة قول الهذلي :


                                                                                                                                                                                                                                      1203 - ويأوي إلى نسوة عطل     وشعثا مراضيع مثل السعالي



                                                                                                                                                                                                                                      انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : "انتهى هذا السؤال وجوابه ، وفي ذلك تخليط ، وذلك أنه لم يفرق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم ، وبين المنصوب على الاختصاص ، وجعل حكمهما واحدا ، وأورد مثالا من المنصوب على المدح وهو : " الحمد لله الحميد "ومثالين من المنصوب على الاختصاص وهما : " إنا معاشر الأنبياء لا نورث " " إنا بني نهشل لا ندعي لأب " . والذي ذكره النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة ، وقبله معرفة تصلح أن يكون تابعا لها وقد لا تصلح ، وقد يكون نكرة كذلك ، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة فلا يصلح أن يكون نعتا لها ، نحو قول النابغة : [ ص: 80 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1204 - أقارع عوف لا أحاول غيرها     وجوه قرود تبتغي من تجادع



                                                                                                                                                                                                                                      فنصب " وجوه قرود "على الذم وقبله معرفة وهي " أقارع عوف " ، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهما ، ولا يكون إلا معرفا بالألف واللام أو بالإضافة أو بالعلمية أو لفظ " أي " ، ولا يكون إلا بعد ضمير مختص به أو مشارك فيه ، وربما أتى بعد ضمير مخاطب " . قلت : إنما أراد الزمخشري بالمنصوب على الاختصاص المنصوب على إضمار فعل لائق ، سواء كان من الاختصاص المبوب له في النحو أم لا ، وهذا اصطلاح أهل المعاني والبيان ، وقد تقدم التنبيه على ذلك غير مرة .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الرابع : نصبه على القطع أي : إنه كان من حقه أن يرتفع نعتا لله تعالى بعد تعريفه بأل ، والأصل : شهد الله القائم بالقسط ، فلما نكر امتنع إتباعه فقطع إلى النصب . وهذا مذهب الكوفيين ، ونقله بعضهم عن الفراء وحده ، ومنه عندهم قول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1205 - ... ... ... ...     وعالين قنوانا من البسر أحمرا



                                                                                                                                                                                                                                      الأصل : من البسر الأحمر ، وقد تقدم ذلك محققا . ويؤيد هذا الذاهب قراءة عبد الله "القائم بالقسط " برفع "القائم " تابعا للجلالة . وخرجه الزمخشري وغيره على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو القائم ، [أو بدلا [ ص: 81 ] من هو ] " . قال الشيخ : " ولا يجوز ذلك لأن فيه فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي ، وهو المعطوفان ، لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه ، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضا ؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف ، لو قلت : "جاء زيد وعائشة أخوك " لم يجز ، إنما الكلام جاء زيد أخوك وعائشة " .

                                                                                                                                                                                                                                      فتحصل في رفع " القائم "على هذه القراءة ثلاثة أوجه : النعت والبدل وخبر مبتدأ محذوف . ونقل عن عبد الله أيضا أنه قرأ : " قائم بالقسط "بالتنكير ، ورفعه من وجهي البدل وخبر المبتدأ . وقرأ أبو حنيفة : "قيما " بالنصب على ما تقدم . فهذه أربعة أوجه حررتها من كلام القوم .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن رفع "الملائكة " وما بعده عطف على الجلالة المعظمة . وقال بعضهم : "الكلام تم عند قوله : لا إله إلا هو وارتفع " الملائكة "بفعل مضمر تقديره : وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك " وكأن هذا الذاهب يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم ، ولا يجيز إعمال المشترك في معنييه فاحتاج من أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوق لفظا ويخالفه معنى ، وهذا يجيء نظيره في قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي . قال الزمخشري : "فإن قلت : هل دخل قيامه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة وأولي العلم كما دخلت الوحدانية ؟ قلت : نعم إذا جعلته [ ص: 82 ] حالا من " هو "أو نصبا على المدح منه ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : شهد الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لا إله إلا هو في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها مكررة للتوكيد . قال الزمخشري : "فإن قلت : لم كرر قوله لا إله إلا هو ؟ قلت : ذكره أولا للدلالة على اختصاصه بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة ، ثم ذكره ثانيا بعد ما قرن بإثبات الوحدانية إثبات العدل للدلالة على اختصاصه بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هو الموصوف بالصفتين ، ولذلك قرن به قوله : العزيز الحكيم لتضمنها معنى الوحدانية والعدل " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : "ليس بتكرير ؛ لأن الأول شهادة الله تعالى وحده ، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم " ، وهذا كما تقدم عند من يرفع "الملائكة " بفعل آخر مضمر لما ذكرته من أنه لا يرى إعمال المشترك ، وأن الشهادتين متغايرتان ، وهو مذهب مرجوح . وقال الراغب : "إنما كرر لا إله إلا هو لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد ، لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد فيصح وصفهم بها ، ولذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر وأبلغ " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : العزيز الحكيم فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه بدل من "هو " . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر . الثالث : أنه نعت لـ "هو " ، وهذا إنما يتمشى على مذهب الكسائي ، فإنه يرى وصف الضمير الغائب ، ويتقدم نحو هذا في قوله : لا إله إلا هو الرحمن الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية