الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (110) قوله تعالى : كنتم خير أمة : في "كان " هذه ستة أقوال ، أحدها : أنها ناقصة على بابها ، وإذا كانت كذلك فلا دلالة على مضي وانقطاع ، بل تصلح للانقطاع نحو : "كان زيد قائما " وتصلح للدوام نحو : وكان الله غفورا رحيما ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ، فهي هنا بمنزلة "لم يزل " وهذا بحسب القرائن .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 348 ] وقال الزمخشري : "كان " عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : وكان الله غفورا رحيما وقوله : كنتم خير أمة كأنه قيل : "وجدتم خير أمة " . قال الشيخ : قوله "لم تدل على عدم سابق " هذا إذا لم تكن بمعنى "صار " فإذا كانت بمعنى "صار " دلت على عدم سابق ، فإذا قلت : "كان زيد عالما " بمعنى "صار زيد عالما " دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم ، وقوله : "ولا على انقطاع طارئ " قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا انقطاع ، وفرق بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : "هذا اللفظ يدل على العموم " ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم بل يراد الخصوص . وقوله : "كأنه قيل وجدتم خير أمة " هذا يعارض قوله "إنها مثل قوله : وكان الله غفورا رحيما لأن تقديره " وجدتم خير أمة "يدل على أنها التامة وأن " خير أمة "حال . وقوله : وكان الله غفورا رحيما لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا " قلت : لا تعارض لأن هذا تفسير معنى لا تفسير إعراب .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنها بمعنى "صرتم " و "كان " تأتي بمعنى "صار " كثيرا كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1385 - بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها



                                                                                                                                                                                                                                      أي : صارت فراخا .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أنها تامة بمعنى وجدتم ، و "خير أمة " على هذا منصوب على الحال أي : وجدتم في هذه الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 349 ] الرابع : أنها زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة ، وهذا قول مرجوح أو غلط لوجهين ، أحدهما : أنها لا تزاد أولا ، وقد نقل ابن مالك الاتفاق على ذلك . والثاني : أنها لا تعمل في "خير " مع زيادتها ، وفي الثاني نظر ، إذ الزيادة لا تنافي العمل ، وقد تقدم عليه دلائل في البقرة عند قوله : ألا نقاتل في سبيل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أنها على بابها ، والمراد : كنتم في علم الله ، أو في اللوح المحفوظ .

                                                                                                                                                                                                                                      السادس : أن هذه الجملة متصلة بقوله : ففي رحمة الله أي : فيقال : لهم في القيامة كنتم خير أمة ، وهو بعيد جدا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أخرجت يجوز في هذه الجملة أن تكون في محل جر نعتا لـ "أمة " وهو الظاهر ، وأن تكون في محل نصب نعتا لـ "خير " ، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب ، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزا أيضا ، وذلك أنه إذا تقدم ضمير حاضر متكلما كان أو غائبا ، ثم جاء بعده خبره اسما ظاهرا ، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفا له كان للعرب فيه طريقان ، إحداهما : مراعاة ذلك الضمير السابق فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر ، والثانية : مراعاة ذلك الاسم الظاهر فيعيد الضمير عليه منها غائبا ، وذلك [نحو ] قولك : "أنت رجل تأمر بمعروف " بالخطاب مراعاة لـ "أنت " ، و "يأمر " بالغيبة مراعاة لـ "رجل " ، "وأنا امرؤ أقول الحق " بالمتكلم مراعاة لـ "أنا " و "يقول الحق " مراعاة لامرئ . ومن مراعاة الضمير قوله تعالى : بل أنتم قوم تجهلون ، بل أنتم قوم تفتنون ، وقوله " وإنك امرؤ فيك جاهلية " [ ص: 350 ] وقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1386 - وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية     كأنك منها قاعد في جوالق



                                                                                                                                                                                                                                      ولو قيل في الآية الكريمة "أخرجتم " مراعاة لـ "كنتم " لكان جائزا من حيث اللفظ ، ولكن لا يجوز أن يقرأ به ، لأن القراءة سنة متبعة ، فالأولى أن تجعل الجملة صفة لـ "أمة " لا لـ "خير " ليتناسب الخطاب في قوله : " تأمرون " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " للناس " فيه أوجه ، أحدها : أن يتعلق بـ " أخرجت " ، والثاني : أن يتعلق بـ "خير " والفرق بينهما من حيث المعنى أنه لا يلزم أن يكونوا أفضل الأمم في الوجه الثاني من هذا اللفظ ، بل من موضع آخر . والثالث : أنه متعلق من حيث المعنى لا من حيث الإعراب بـ " تأمرون " على أن مجرورها مفعول به ، فلما قدم ضعف العامل فقوي بزيادة اللام كقوله : إن كنتم للرؤيا تعبرون أي : تعبرون الرؤيا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " تأمرون " في هذه الجملة أوجه أحدها : أنها خبر ثان لـ "كنتم " ، ويكون قد راعى الضمير المتقدم في "كنتم " ، ولو راعى الخبر لقال : "يأمرون " بالغيبة ، وقد تقدم تحقيقه . والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، قاله الراغب وابن عطية . الثالث : أنها في محل نصب نعتا لخير أمة ، وأتى بالخطاب لما تقدم ، قاله الحوفي . الرابع : أنها مستأنفة بين بها كونهم خير أمة ، كأنه قيل : السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة ، وهذا أغرب الأوجه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 351 ] قوله : لكان خيرا اسم "كان " ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله ، والتقدير : لكان الإيمان خيرا كقولهم : "من كذب كان شرا له " أي : كان الكذب شرا له ، ونحوه : اعدلوا هو أقرب ، [وقوله ] :


                                                                                                                                                                                                                                      1387 - إذا نهي السفيه جرى إليه     وخالف والسفيه إلى خلاف



                                                                                                                                                                                                                                      أي : جرى إليه السفه .

                                                                                                                                                                                                                                      والمفضل عليه محذوف أي : خيرا لهم من كفرهم وبقائهم على جهلهم . والمراد بالخيرية في زعمهم : وقال ابن عطية : "ولفظة " خير "صيغة تفضيل ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظ " خير "من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة " أفضل "و " أحب "وما جرى مجراهما " . قال الشيخ : "وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن ذلك إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : منهم المؤمنون إلى آخره : جمل مستأنفة سيقت للإخبار بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية