الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (6) قوله تعالى : حتى إذا بلغوا : في "حتى " هذه وما أشبهها - أعني الداخلة على "إذا " - قولان ، أشهرهما : أنها حرف غاية دخلت على الجملة الشرطية وجوابها ، والمعنى : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم بشرط إيناس الرشد ، فهي حرف ابتداء كالداخلة على سائر الجمل كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1545 - وما زالت القتلى تمج دماءها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل



                                                                                                                                                                                                                                      وقول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1546 - سريت بهم حتى تكل مطيهم     وحتى الجياد ما يقدن بأرسان



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : - وهو قول جماعة منهم الزجاج وابن درستويه - أنها حرف جر ، وما بعدها مجرور بها ، وعلى هذا فـ "إذا " تتمحض للظرفية ، ولا يكون فيها معنى الشرط ، وعلى القول الأول يكون العامل في "إذا " ما تخلص من معنى جوابها تقديره : إذا بلغوا النكاح راشدين فادفعوا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 584 ] وظاهر عبارة بعضهم أن "إذا " ليست بشرطية ، قال : "وإذا ليست بشرطية لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : " فعلوا ذلك مضطرين " ، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب ، وبأنه يليها الفعل ظاهرا أو مضمرا ، واحتج الخليل على عدم شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول : " أجيئك إذا احمر البسر " ، ولا تقول : " إن احمر " . قال الشيخ : " وكلامه يدل على أنها تكون ظرفا مجردا ليس فيها معنى الشرط ، وهو مخالف للنحويين ، فإنهم كالمجمعين على أنها ظرف فيها معنى الشرط غالبا ، وإن وجد في عبارة بعضهم ما ينفي كونها أداة شرط فإنما يعني أنها لا يجزم بها لا أنها لا تكون شرطا " . وقدر بعضهم مضافا قال : " تقديره : بلغوا حد النكاح أو وقته ، والظاهر أنه لا يحتاج إليه ، إذ المعنى : صلحوا للنكاح . والفاء في قوله : فإن آنستم جواب "إذا " ، وفي قوله "فادفعوا " جواب "إن " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود : "فإن أحستم " والأصل : أحسستم فحذف إحدى السينين ، ويحتمل أن تكون العين أو اللام ، ومثله قول أبي زبيد :


                                                                                                                                                                                                                                      1547 - سوى أن العتاق من المطايا     حسين به فهن إليه شوس



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا حذف لا ينقاس ، ونقل بعضهم أنها لغة سليم ، وأنها مطردة في عين كل فعل مضاعفة اتصل به تاء الضمير أو نونه .

                                                                                                                                                                                                                                      ونكر "رشدا " دلالة على التنويع ، والمعنى : أي نوع حصل من الرشد [ ص: 585 ] كان كافيا . وقرأ الجمهور : "رشدا " بضمة وسكون ، وابن مسعود والسلمي بفتحتين ، وبعضهم بضمتين . وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف مشبعا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وآنس كذا : أحس به وشعر ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1548 - آنست نبأة وأفزعها القن     اص عصرا وقد دنا الإمساء



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : "وجد " عن الفراء ، وقيل : "أبصر " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إسرافا وبدارا فيه وجهان ، أحدهما : أنهما منصوبان على المفعول من أجله أي : لأجل الإسراف والبدار . ونقل عن ابن عباس أنه قال : "كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم ، لئلا يكبر ، فينتزع المال منهم " . والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال أي : مسرفين ومبادرين . و "بدارا " مصدر بادر ، والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها ، بمعنى "أن الولي يبادر اليتيم إلى أخذ ماله ، واليتيم يبادر إلى الكبر ، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى : أن فاعل بمعنى فعل نحو : سافر وطارق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أن يكبروا فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول بالمصدر أي : وبدارا كبرهم ، كقوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ، وفي إعمال [ ص: 586 ] المصدر المنون خلاف مشهور . والثاني : أنه مفعول من أجله على حذف ، أي : مخافة أن يكبروا ، وعلى هذا فمفعول " بدارا "محذوف . وهذه الجملة النهيية فيها وجهان ، أصحهما : أنها استئنافية ، وليست معطوفة على ما قبلها . والثاني : أنها عطف على ما قبلها وهو جواب الشرط بـ " إن "أي : فادفعوا ولا تأكلوها ، وهذا فاسد ، لأن الشرط وجوابه مترتبان على بلوغ النكاح ، وهو معارض لقوله وبدارا أن يكبروا فيلزم منه سبقه على ما ترتب عليه وذلك ممتنع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وكفى بالله حسيبا في " كفى "قولان ، أحدهما : أنها اسم فعل . والثاني : - وهو الصحيح - أنها فعل ، وفي فاعلها قولان : أحدهما - وهو الصحيح - أنه المجرور بالباء ، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو : أولم يكف بربك باطراد . قال أبو البقاء : " زيدت لتدل على معنى الأمر إذ التقدير : اكتف بالله " . والثاني : أنه مضمر ، والتقدير : كفى الاكتفاء ، و " بالله "على هذا في موضع نصب لأنه مفعول به في المعنى ، وهذا رأي ابن السراج . ورد هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1549 - هل تذكرون إلى الديرين هجرتكم     ومسحكم صلبكم رحمان قربانا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : قولكم يا رحمان . وقال الشيخ : " وقيل : الفاعل مضمر ، [ ص: 587 ] وهو ضمير الاكتفاء ، أي : كفى هو ، أي : الاكتفاء ، والباء ليست زائدة ، فيكون في موضع نصب ، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل ، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين ؛ لأنه لا يجوز عندهم إعمال المصدر مضمرا وإن عنى بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضا لوجهين : حذف الفاعل ، وإعمال المصدر محذوفا وإبقاء معموله " . وفيه نظر ، إذ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل " كفى "مضمر لا نعلق " بالله "بالفاعل حتى يلزم ما ذكر ، بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدم ، وهذا القول سبقه إليه مكي والزجاج فإنه قال : " دخلت الباء في الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر ، أي : اكتفوا بالله " ، وهذا الكلام يشعر أن الباء ليست بزائدة ، وهو كلام غير صحيح ، لأنه من حيث المعنى الذي قدره يكون الفاعل هم المخاطبين ، و " بالله "متعلق به ، ومن حيث كون الباء دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو الله تعالى فتناقض .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي كلام ابن عطية "نحو من قوله أيضا ، فإنه قال : " بالله "في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر أي : اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك " ، وفي هذا ما رد به على الزجاج وزيادة جعل الحرف زائدا وغير زائد . وقال ابن عيسى : "إنما دخلت الباء في " كفى بالله "لأنه كان يتصل اتصال الفاعل ، وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل ؛ لأن الكفاية منه تعالى ليست كالكفاية من غيره ، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها " ويحتاج إلى فكر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : حسيبا فيه وجهان ، أصحهما : أنه تمييز يدل على ذلك صلاحية دخول "من " عليه ، وهي علامة التمييز . والثاني : أنه حال .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 588 ] و "كفى " هنا متعدية لواحد ، وهو محذوف تقديره : وكفاكم الله " . وقال أبو البقاء : " وكفى "تتعدى إلى مفعولين حذفا هنا تقديره : كفاك الله شرهم بدليل قوله : فسيكفيكهم الله . والظاهر أن معناها غير معنى هذه . قال الشيخ بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد : " وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله : فسيكفيكهم الله . وهو محل نظر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية