الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (46) ويكلم وقوله : " من الصالحين" فهذه أربعة أحوال انتصبت عن قوله " بكلمة " ، وإنما ذكره الحال حملا على المعنى ، إذ المراد بها الولد والمكون ، كما ذكر الضمير في "اسمه " ، فالحال الأولى جيء بها على الأصل اسما [ ص: 178 ] صريحا ، والباقية في تأويله : فالثانية جار ومجرور ، وأتي بها هكذا لوقوعها فاصلة في الكلام ، ولو جيء بها اسما صريحا لفات مناسبة الفواصل ، والثالثة جملة فعلية ، وعطف الفعل على الاسم لتأويله به وهو كقوله تعالى : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن أي : وقابضات ، ومثله في عطف الاسم على الفعل لأنه في تأويله قول النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      1288 - فألفيته يوما يبير عدوه وبحر عطاء يستخف المعابرا



                                                                                                                                                                                                                                      ويقرب منه :


                                                                                                                                                                                                                                      1289 - بات يغشيها بعضب باتر     يقصد في أسوقها وجائر



                                                                                                                                                                                                                                      إذ المعنى : مبيرا عدوه ، وقاصد ، وجاء بالثالثة فعلية لأنها في رتبتها ، إذ الحال وصف في المعنى ، وقد تقدم أنه إذا اجتمع صفات مختلفة في الصراحة والتأويل قدم الاسم ثم الظرف أو عديله ثم الجملة ، فكذا فعل هنا ، قدم الاسم وهو " وجيها " ثم الجار والمجرور ثم الفعل ، وأتى به مضارعا لدلالته على التجدد وقتا فوقتا ، بخلاف الوجاهة فإن المراد ثبوتها واستقرارها والاسم متكفل بذلك ، والجار قريب من المفرد فلذلك ثنى به إذ المقصود ثبوت تقريبه . والتضعيف في " المقربين " للتعدية لا للمبالغة لما تقدم من أن التضعيف للمبالغة لا يكسب الفعل مفعولا ، وهذا قد أكسبه مفعولا كما ترى بخلاف : "قطعت الأثواب " فإن التعدي حاصل قبل ذلك ، وجيء بالرابعة بقوله من الصالحين مراعاة للفاصلة كما تقدم في " المقربين " والمعنى : أن الله يبشرك بهذه الكلمة موصوفة بهذه الصفات الجميلة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 179 ] ومنع أبو البقاء أن تكون أحوالا من المسيح أو من عيسى أو من ابن مريم ، قال : "لأنها أخبار والعامل فيها الابتداء أو المبتدأ أو هما ، وليس شيء من ذلك يعمل في الحال " ومنع أيضا كونها حالا من الهاء في "اسمه " قال : "للفصل الواقع بينهما ، ولعدم العامل في الحال " قلت : ومذهبه أيضا أن الحال لا تجيء من المضاف إليه وهو مراده بقوله : "ولعدم العامل " وجاءت الحال من النكرة لتخصصها بالصفة بعدها . وظاهر كلام الواحدي فيما نقله عن الفراء ، أنه يجوز أن تكون أحوالا من عيسى فإنه قال : "والفراء يسمي هذا قطعا كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيه ، قطع منه التعريف " فظاهر هذا يؤذن بأن " وجيها " من صفة عيسى في الأصل فقطع عنه ، والحال وصف في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : في الدنيا متعلق بوجيها ، لما فيه من معنى الفعل . والوجيه : ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة ، واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ، والجاه مقلوب منه فوزنه عفل .

                                                                                                                                                                                                                                      آ . (46) وقوله تعالى : في المهد : يجوز فيه وجهان : أحدهما : - وهو الظاهر- أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الضمير في "يكلم " أي : يكلمهم صغيرا وكهلا ، فكهلا على هذا نسق على هذه الحال المؤولة . والثاني : أنه ظرف للتكليم كسائر الفضلات ، فكهلا على هذا نسق على وجيها فعلى هذا يكون خمسة أحوال .

                                                                                                                                                                                                                                      والكهل : من بلغ سن الكهولة وأولها ثلاثون ، وقيل : اثنان ، وقيل : ثلاث وثلاثون . وقيل : أربعون ، وآخرها ستون ، ثم يدخل في سن الشيخوخة واشتقاقه من اكتهل النبات : إذا علا وأربع ، ومنه : الكاهل ، وقال صاحب [ ص: 180 ] المجمل : "اكتهل الرجل : وخطه الشيب من قولهم : اكتهلت الروضة إذا عمها النور ، والمرأة : كهلة " . وقال الراغب : "والكهل من وخطه الشيب ، واكتهل النبات : إذا شارف اليبوسة مشارفة الكهل الشيب ، وأنشد قول الأعشى في وصف روضة :


                                                                                                                                                                                                                                      1290 - يضاحك الشمس منها كوكب شرق     مؤزر بعميم النبت مكتهل



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم الكلام في تنقل أحوال الولد من لدن كونه في البطن إلى شيخوخته عند ذكر " غلام "فلا نعيده .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : " ما دام في بطن أمه فهو جنين ، فإذا ولد فوليد ، فإذا لم يستتم الأسبوع فصديع ، وما دام يرضع فهو رضيع ، ثم هو فطيم عند الفطام ، وإذا لم يرضع فمحوش ، فإذا دب فدارج ، فإذا سقطت رواضعه فثغور ، فإذا نبتت بعد إسقاطه فمثغور ومتغور ، فإذا جاوز العشر فمترعرع وناشئ ، فإذا لم يبلغ الحلم فيافع ومراهق ، فإذا احتلم فحزور ، والغلام يطلق عليه في جميع أحواله بعد الولادة ، فإذا اخضر شاربه وسال عذاره فباقل ، فإذا صار ذا لحية ففتي وشارخ ، فإذا ما كملت لحيته فمتجمع ، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شاب ، ومن الأربعين إلى ستين كهل "ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك ، هذا أشهرها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 181 ] فإن قيل : [المستغرب إنما هو كلام الطفل في ] المهد ، وأما كلام الكهول فغير مستغرب ، فالجواب أنهم قالوا : لم يتكلم صبي في المهد وعاش ، أو لم يتكلم أصلا بل يبقى أخرس أبدا ، فبشر الله مريم بأن هذا يتكلم طفلا ويعيش ويتكلم في حال كهولته ، ففيه تطمين لخاطرها بما يخالف العادة . وقال الزمخشري : " بمعنى يكلم الناس طفلا وكهلا ، ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين : حالة الطفولة وحالة الكهولة " .

                                                                                                                                                                                                                                      والمهد : ما يهيأ للصبي أن يربى فيه ، من مهدت له المكان أي : وطأته ولينته له ، وفيه احتمالان ، أحدهما : أن يكون أصله المصدر ، فسمي به المكان ، وأن يكون بنفسه اسم مكان غير مصدر ، وقد قرئ مهدا ومهادا في طه كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية