الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (179) قوله تعالى : ما كان الله ليذر : هذه تسمى لام الجحود ، وينصب بعدها المضارع بإضمار "أن " ولا يجوز إظهارها . والفرق بنيها وبين لام كي أن هذه على المشهور شرطها أن تكون بعد كون منفي ، ومنهم من يشترط مضي الكون ، ومنهم من لم يشترط الكون ، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو استغنيت عنها هنا بما ذكرته في "شرح التسهيل " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي خبر "كان " في هذا الموضع وما أشبهه قولان ، أحدهما : - وهو قول البصريين - أنه محذوف وأن اللام مقوية لتعدية ذلك الخبر المقدر لضعفه ، والتقدير : ما كان الله مريدا لأن يذر ، فـ "أن يذر " هو مفعول "مريدا " ، والتقدير : ما كان الله مريدا ترك المؤمنين . والثاني - قول الكوفيين - : أن اللام زائدة لتأكيد النفي وأن الفعل بعدها هو خبر "كان " ، واللام عندهم هي العاملة النصب في الفعل بنفسها لا بإضمار "أن " ، والتقدير عندهم : ما كان الله يذر المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وضعف أبو البقاء مذهب الكوفيين بأن النصب قد وجد بعد هذه اللام ، فإن كان النصب بها نفسها فليست زائدة ، وإن كان النصب بإضمار "أن " فسد من جهة المعنى لأن "أن " وما في حيزها بتأويل مصدر ، والخبر في باب "كان " هو الاسم في المعنى فيلزم أن يكون المصدر الذي هو معنى من المعاني صادقا على اسمها وهو محال " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 508 ] أما قوله : " إن كان النصب بها فليست زائدة "فممنوع ؛ لأن العمل لا يمنع الزيادة ، ألا ترى أن حروف الجر تزاد وهي عاملة ، وكذلك " أن "عند الأخفش و " كان "في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1500 - ... ... ... ... وجيران لنا كانوا كرام



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم تحقيق ذلك في غير موضع .

                                                                                                                                                                                                                                      و " يذر "فعل لا يتصرف كـ " يدع "استغناء عنه بتصرف مرادفه وهو " ترك " ، وحذفت الواو من " يذر "من غير موجب تصريفي ، وإنما حملت على " يدع "لأنها بمعناها ، و " يدع "حذفت منه الواو لموجب وهو وقوع الواو بين ياء وكسرة مقدرة ، وأما الواو في " يذر "فوقعت بين ياء وفتحة أصلية ، وقد تقدم تحقيق القول فيه عند قوله تعالى : وذروا ما بقي من الربا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : حتى يميز " حتى "هنا قيل : للغاية المجردة بمعنى " إلى " ، والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة . والغاية هنا مشكلة على ظاهر اللفظ ؛ لأنه يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييز بين الخبيث والطيب ، ومفهومه أنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه . وهذا ظاهر ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قطعا ، ويصير هذا نظير قولك : "لا أكلم زيدا حتى يقدم عمرو " فالكلام منتف إلى قدوم عمرو . والجواب عنه : أن "حتى " غاية لما يفهم من معنى هذا الكلام ، ومعناه أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيث من الطيب .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 509 ] وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الأنفال : "يميز " بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . وعن ابن كثير أيضا "يميز " من أماز ، فهذه ثلاث لغات ، يقال مازه وميزه وأمازه . والتشديد والهمزة ليسا للنقل ، لأن الفعل قبلهما متعد ، وإنما فعل بالتشديد وأفعل بمعنى المجرد ، وهل ماز وميز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين ؟ قولان . ثم القائلون بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال "ماز " إلا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فميزت ، ولذلك قال أبو معاذ : يقال : "ميزت بين الشيئين ومزت بين الأشياء " . وقال بعضهم عكس هذا : مزت بين الشيئين وميزت بين الأشياء ، وهذا هو القياس ، فإن التضعيف يؤذن بالتكثير وهو لائق بالمتعددات . ورجح بعضهم "ميز " بالتشديد بأنه أكثر استعمالا ، ولذلك لم يستعمل المصدر إلا منه فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا : "الميز " يعني لم يقولوه سماعا وإلا فهو جائز قياسا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولكن الله هذا استدراك من معنى الكلام المتقدم ، لأنه لما قال تعالى : وما كان الله ليطلعكم توهم أنه لا يطلع أحدا على غيبه لعموم الخطاب فاستدرك الرسل ، والمعنى : ولكن الله يجتبي أي - يصطفي - من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب ، فهو ضد لما قبله في المعنى ، وقد تقدم أنها تقع بين ضدين ونقيضين ، وفي الخلافين خلاف .

                                                                                                                                                                                                                                      و "يجتبي " : يصطفي ويختار ، يفتعل من جبوت المال والماء وجبيتهما لغتان ، فالياء في "يجتبي " يحتمل أن تكون على أصلها ، وأن تكون منقلبة من واو لانكسار ما قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 510 ] ومفعول "يشاء " محذوف ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى ، والتقدير : من يشاء إطلاعه على الغيب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية