الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (80) قوله تعالى : ولا يأمركم : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب "يأمركم " والباقون بالرفع ، وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس ، وهي قراءة واضحة سهلة التخريج والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف ، أخبر تعالى بأن ذلك الأمر لا يقع . والفاعل فيه احتمالان ، أحدهما : هو ضمير الله تعالى ، والثاني هو ضمير "بشر " الموصوف بما تقدم ، والمعنى على عوده على "بشر " أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه ربا فيعبد ، ولا يأمر أيضا أن تعبد الملائكة والأنبياء من دون الله ، فانتقى أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه وإلى عبادة غيره . والمعنى على عوده على الله تعالى أنه أخبر أنه لم يأمر بذلك فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة النصب ففيها [أوجه ، ] أحدها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا "أن " تضمر بعد "لا " وتكون "لا " مؤكدة لمعنى النفي السابق كما تقول : "ما كان من زيد إتيان ولا قيام " وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن يكون نصبه لنسقه على "يؤتيه " قال سيبويه : "والمعنى : وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة " . قال الواحدي : "ويقوي هذا [ ص: 280 ] الوجه ما ذكرنا أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : أتريد يا محمد أن نتخذك ربا فنزلت " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يكون معطوفا على "يقول " في قراءة العامة قاله الطبري . قال ابن عطية : "وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى " ولم ييبن أبو محمد وجه الخطأ ولا عدم التئام المعنى . قال الشيخ : "وجهة الخطأ أنه إذا كان معطوفا على " يقول "وجعل " لا "للنفي على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد فلا يمكن أن يقدر الناصب وهو " أن "إلا قبل " لا "النافية ، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي بـ " لا "مصدر منفي ، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خطأ بين . أما إذا جعل " لا "لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خطأ ولا عدم التئام المعنى ، وذلك أنه يصير النفي منسحبا على المصدرين المقدر ثبوتهما فينتفي قوله كونوا عبادا لي وينتفي أيضا أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، ويوضح هذا المعنى وضع " غير "موضع " لا "فإذا قلت : " ما لزيد فقه ولا نحو "كانت " لا "لتأكيد النفي وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت " لا "لتأسيس النفي كانت بمعنى غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : " ما لزيد فقه وغير نحو "كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ما له غير نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : " جئت بلا زاد "كان المعنى جئت بغير زاد ، وإذا قلت : " ما جئت بغير زاد "معناه أنك جئت بزاد ، لأن " لا "هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن تكون " لا "لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي [ ص: 281 ] بلا على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم تريد : ما أريد أن لا تتعلم " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وتابع الزمخشري الطبري في عطف "يأمركم " على "يقول " وجوز في "لا " الداخلة عليه وجهين ، أحدهما : أن تكون لتأسيس النفي ، والثاني : أنها مزيدة لتأكيده ، فقال : "وقرئ " ولا يأمركم "بالنصب عطفا على " ثم يقول " ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن تجعل " لا "مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : ما كان لبشر والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي . والثاني : أن تجعل " لا "غير مزيدة ، والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشا على عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربا قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء " . قلت : وهذا الذي أورده الزمخشري كلام صحيح ومعنى واضح على كلا تقديري كون "لا " لتأسيس النفي أو تأكيده ، فكيف يجعل الشيخ كلام الطبري فاسدا على أحد التقديرين وهو كونها لتأسيس النفي ؟ فقد ظهر والحمد لله صحة كلام الطبري بكلام أبي القاسم الزمخشري وظهر أن رد ابن عطية عليه مردود .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رجح الناس قراءة الرفع على النصب قال سيبويه : "ولا يأمركم منقطعة مما قبلهما ؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله " ، قال الواحدي : "ومما يدل على الانقطاع من الأول قراءة عبد الله : " ولن يأمركم " . قال الفراء : "فهذا [ ص: 282 ] دليل على انقطاعها من النسق وأنها مستأنفة ، فلما وقعت [لا ] موقع لن رفعت كما قال تعالى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم وفي قراءة عبد الله : " ولن تسأل "وقال الزمخشري : " والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، ويعضدها قراءة عبد الله : "ولن يأمركم " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أن الضمير في "يأمركم " يجوز أن يعود على "الله " وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم ، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعم من ذلك ، سواء قرئ برفع "ولا يأمركم " أو بنصبه إذا جعلناه معطوفا على "يؤتيه " ، وأما إذا جعلناه معطوفا على "يقول " فإن الضمير يعود لبشر ليس إلا ، ويؤيد ما قلته ما قال بعضهم : "ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفا على الفعل المنصوب قبله ، فيكون الضمير المرفوع لبشر لا غير " يعني بما قبله "ثم يقول " . ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائدا على الله تعالى ، ولم يذكر غير ذلك ، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده ، ويحتمل أنه لا يجوز غيره ، والأولى أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم : "في الضمير المنصوب في " يأمركم "على كلتا القراءتين خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات " قلت : كأنه توهم أنه لما [توهم ] تقدم ذكر الناس في قوله : ثم يقول للناس كان ينبغي أن يكون النظم "ولا يأمرهم " جريا على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداء خطاب لا التفات فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بعد إذ أنتم مسلمون "بعد " متعلق بيأمركم ، و "بعد " ظرف زمان [ ص: 283 ] مضاف لظرف زمان ماض ، وقد تقدم أنه لا يضاف إليه إلا الزمان نحو : حينئذ ويومئذ ، و أنتم مسلمون في محل خفض بالإضافة ؛ لأن "إذ " تضاف إلى الجملة مطلقا اسمية كانت أو فعلية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية