الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (13) قوله تعالى : يدخله : حمل على لفظ "من " فأفرد الضمير في قوله : "يطع " و "يدخله " ، وعلى معناها فجمع في قوله "خالدين " . وهذا أحسن الحملين ، أعني الحمل على اللفظ ثم المعنى ، ويجوز العكس وإن كان ابن عطية قد منعه ، وليس بشيء لثبوته عن العرب ، وقد تقدم ذلك غير مرة وفيه تفصيل ، وله شروط مذكورة في كتب النحو .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي نصب " خالدين " وجهان ، أظهرهما : أنه حال من الضمير المنصوب في "يدخله " ، ولا يضر تغاير الحال وصاحبها من حيث كانت جمعا وصاحبها مفردا لما تقدم من اعتبار اللفظ والمعنى ، وهي مقدرة لأن الخلود بعد الدخول .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن يكون نعتا لـ "جنات " من باب ما جرى على موصوفه لفظا وهو لغيره معنى نحو : مررت برجل قائمة أمه ، وبامرأة حسن غلامها ، فـ "قائمة " و "حسن " وإن كانا جاريين على ما قبلهما لفظا فهما لما بعدهما معنى ، أجاز ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي ، إلا أن الصفة إذا جرت على غير من هي له وجب إبراز الضمير مطلقا على مذهب البصريين : ألبس أو لم يلبس . وأما الكوفيون فيفصلون فيقولون : إذا جرت الصفة على غير من هي له : فإن ألبس وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو : "زيد عمرو ضاربه هو " إذا كان الضرب واقعا من زيد على [ ص: 615 ] عمرو وإن لم يلبس لم يجب الإبراز نحو : "زيد هند ضاربها " ، إذا تقرر هذا فمذهب الزجاج في الآية إنما يتمشى على رأي الكوفيين ، وهو مذهب حسن .

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل من نصر مذهب الكوفيين بالسماع ، فمنه قراءة من قرأ : إلى طعام غير ناظرين إناه بجر "غير " مع عدم بروز الضمير ، ولو أبرزه لقال : "غير ناظرين إناه أنتم " ومنه قول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1556 - قومي ذرا المجد بانوها وقد علمت بكنه ذلك عدنان وقحطان



                                                                                                                                                                                                                                      ولم يقل : بانوها هم ، وقد خرج بعضهم البيت على حذف مبتدأ تقديره : هم بانوها ، فـ "قومي " مبتدأ أول "و " ذرا "مبتدأ ثان ، و " هم "مبتدأ ثالث ، و " بانوها "خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد منع الزمخشري كون " خالدين "و " خالدا "صفة لـ " جنات "و " نارا "بعدم بروز الضمير فقال : " فإن قلت : هل يجوز أن يكونا صفتين لـ "جنات " و "نارا " ؟ قلت : لا ، لأنهما جريا على غير من هما له ، فلا بد من الضمير في قولك : "خالدين هم فيها ، وخالدا هو فيها " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنع أبو البقاء ذلك أيضا بعدم إبراز الضمير لكن مع "خالدا " ، [ ص: 616 ] ولم يتعرض لذلك مع "خالدين " ، ولا فرق بينهما ، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين ، وهذا المنع على مذهب البصريين كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع وابن عامر هنا "ندخله " في الموضعين ، وفي سورة التغابن والطلاق والفتح بنون العظمة ، والباقون بالياء ، والضمير لله تعالى ، وإنما جمع "خالدين " في الطائعين ، وأفرد "خالدا " في العاصين ، قالوا : لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة ، فلما كانوا يدخلون هم والمشفوع لهم ناسب ذلك الجمع ، والعاصي لا يدخل به غيره النار فناسب ذلك الإفراد .

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة من قوله تجري من تحتها الأنهار في محل نصب صفة لـ "جنات " وقد تقدم غير مرة أن المنصوب بعد "دخل " من الظروف هل نصبه نصب الظروف أو نصب المفعول به ؟ الأول قول الجمهور ، والثاني قول الأخفش ، فكذلك "جنات " و "نارا " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية