الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (42) قوله تعالى : يومئذ : فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه معمول لـ " يود " أي : يود الذين كفروا يوم إذ جئنا . والثاني : أنه معمول لـ " شهيدا " قاله أبو البقاء ، قال "وعلى هذا يكون " يود "صفة لـ " يوم " ، والعائد محذوف تقديره : فيه ، وقد ذكر ذلك في قوله واتقوا يوما لا تجزي وفيما قاله نظر لا يخفى .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أن " يوم "مبني لإضافته إلى " إذ "قاله الحوفي ، قال : لأن الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه . و " إذ "هنا اسم ؛ لأن الظروف [ ص: 685 ] إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها كما تخصص الأسماء ، مع استحقاقها الجر ، والجر ليس من علامات الظروف " .

                                                                                                                                                                                                                                      والتنوين في "إذ " تنوين عوض على الصحيح ، فقيل : عوض من الجملة الأولى في قوله جئنا من كل أي : يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، والرسول على هذا اسم جنس . وقيل : عوض من الجملة الأخيرة ، وهي " وجئنا بك " ، ويكون المراد بالرسول محمدا صلى الله عليه وسلم . وكان النظم "وعصوك " ولكن أبرز ظاهرا بصفة الرسالة تنويها بقدره وشرفه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : وعصوا ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها جملة معطوفة على "كفروا " فتكون صلة ، فيكونون جامعين بين كفر ومعصية . وقيل : بل هي صلة لموصول آخر فيكونون طائفتين . وقيل : هي في محل نصب على الحال من "كفروا " و "قد " مرادة أي : وقد عصوا . وقرأ يحيى وأبو السمال : "وعصوا الرسول " بكسر الواو على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لو تسوى إن قيل : إن "لو " على بابها كما هو قول الجمهور فمفعول "يود " محذوف أي : يود الذين كفروا تسوية الأرض [بهم ] ، ويدل عليه : لو تسوى بهم الأرض وجوابها حينئذ محذوف أي : لسروا بذلك . وإن قيل : إنها مصدرية كانت هي وما بعدها في محل مفعول "يود " ولا جواب لها حينئذ ، وقد تقدم تحقيق ذلك في يود أحدهم لو يعمر قال أبو البقاء " [ ص: 686 ] وعصوا الرسول " في موضع الحال ، و "قد " مرادة ، وهي معترضة بين "يود " وبين مفعولها وهو "لو تسوى " ، و "لو " بمعنى "أن " "المصدرية " . انتهى . وفي جعله الجملة الحالية معترضة بين المفعول وعامله نظر لا يخفى ، لأنها من جملة متعلقات العامل الذي هو صلة للموصول ، وهذا نظير ما لو قلت : "ضرب الذين جاءوا مسرعين زيدا " فكما لا يقال إن "مسرعين " معترض به فكذلك هذه الجملة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم "تسوى " بضم التاء وتخفيف السين مبنيا للمفعول . وقرأ حمزة والكسائي : تسوى بفتحها والتخفيف ، ونافع وابن عامر بالتثقيل . فأما القراءة الأولى فمعناها : أنهم يودون أن الله تعالى يسوي بهم الأرض : إما على أن الأرض تنشق وتبتلعهم ، وتكون الباء بمعنى "على " ، وإما على أنهم يودون أن لو صاروا ترابا كالبهائم ، والأصل : يودون أن الله يسويهم بالأرض ، فقلب إلى هذا كقولهم : "أدخلت القلنسوة في رأسي " ، وإما على أنهم يودون لو يدفنون فيها ، وهو كمعنى القول الأول ، وقيل : لو تعدل بهم الأرض أي : يؤخذ ما عليها منهم فدية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القراءة الثانية فأصلها "تتسوى " بتاءين ، فحذفت إحداهما . وفي الثالثة حذفت إحداهما . ومعنى القراءتين ظاهر مما تقدم ، فإن الأقوال الجارية في القراءة الأولى جارية في القراءتين الأخريين ، غاية ما في الباب أنه نسب الفعل إلى الأرض ظاهرا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولا يكتمون فيه ستة أوجه ، وذلك أن هذه الواو تحتمل أن تكون للعطف وأن تكون للحال : فإن كانت للعطف احتمل أن يكون من عطف المفردات ، وأن يكون من عطف الجمل ، إذا تقرر هذا فيجوز أن [يكون ] ولا يكتمون عطفا على مفعول "يود " أي : يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء [ ص: 687 ] كتمان الحديث ، و "لو " على هذا مصدرية ، ويبعد جعلها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، ويكون "ولا يكتمون " عطفا على مفعول "يود " المحذوف . فهذان وجهان على تقدير كونه من عطف المفردات .

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يكون عطفا على جملة "يود " ، أخبر تعالى عنهم بخبرين أحدهما : الودادة لكذا ، والثاني : أنهم لا يقدرون على الكتم في مواطن دون مواطن ، و "لو " على هذا مصدرية ، ويجوز أن تكون "لو " حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول "يود " أيضا محذوف ، ويكون "ولا يكتمون " عطفا على "لو " وما في حيزها ، ويكون تعالى قد أخبر عنهم بثلاث جمل : الودادة وجملة الشرط بـ "لو " وانتفاء الكتمان ، فهذان أيضا وجهان على تقدير كونه من عطف الجمل .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كانت للحال جاز أن تكون حالا من الضمير في "بهم " ، والعامل فيها "تسوى " ، ويجوز في "لو " حينئذ أن تكون مصدرية وأن تكون امتناعية ، والتقدير : يودون تسوية الأرض بهم غير كاتمين ، أو : لو تسوى بهم غير كاتمين لكان بغيتهم ، ويجوز أن تكون حالا من الذين كفروا ، والعامل فيها "يود " ، ويكون الحال قيدا في الودادة ، و "لو " على هذا مصدرية في محل مفعول الودادة ، والمعنى : يومئذ يود الذين كفروا تسوية الأرض بهم غير كاتمين الله حديثا ، ويبعد أن تكون "لو " على هذا الوجه امتناعية للزوم الفصل بين الحال وعاملها بالجملة . و "يكتمون " يتعدى لاثنين ، والظاهر أنه يصل إلى أحدهما بالحرف ، والأصل : ولا يكتمون من الله حديثا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية