الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (23) قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم : "أمهات " جمع "أم " فالهاء زائدة في الجمع ، فرقا بين العقلاء وغيرهم . يقال في العقلاء : "أمهات " وفي غيرهم : "أمات " كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1562 - وأمات أطلاء صغار



                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو المشهور ، وقد يقال : "أمات " في العقلاء : و "أمهات " في غيرهم وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في العقلاء فقال :


                                                                                                                                                                                                                                      1563 - إذا الأمهات قبحن الوجوه     فرجت الظلام بأماتكا



                                                                                                                                                                                                                                      وقد سمع "أمهة " في "أم " بزيادة هاء ، بعدها تاء تأنيث قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1564 - أمهتي خندف وإلياس أبي



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 640 ] فعلى هذا يجوز أن تكون "أمهات " جمع "أمهة " المزيد فيها الهاء ، والهاء قد أتت زائدة في مواضع قالوا : هبلع وهجرع من البلع والجرع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وبناتكم عطف على "أمهاتكم " . وبنات جمع بنت ، وبنت تأنيث ابن ، وتقدم الكلام عليه وعلى اشتقاقه ووزنه في البقرة في قوله : يا بني إسرائيل ، إلا أن أبا البقاء حكى عن الفراء أن "بنات " ليس جمعا لـ "بنت " يعني بكسر الباء بل جمع "بنة " يعني بفتحها ، قال : وكسرت الباء تنبيها على المحذوف " . قلت : هذا إنما يجيء على اعتقاد أن لامها ياء ، وقد تقدم لنا خلاف في ذلك وأن الصحيح أنها واو ، وحكى عن غيره أن أصلها : بنوة ، وعلى ذلك جاء جمعها ومذكرها وهو بنون ، قال : " وهو مذهب البصريين "قلت : لا خلاف بين القولين في التحقيق ، لأن من قال : بنات جمع " بنة "بفتح الباء لا بد وأن يعتقد أن أصلها " بنوة "حذفت لامها وعوض منها تاء التأنيث ، والذي قال : بنات جمع " بنوة "لفظ بالأصل فلا خلاف .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن تاء " بنت "و " أخت "تاء تعويض عن اللام المحذوفة كما تقدم تقريره ، وليست للتأنيث ، ويدل على ذلك وجهان ، أحدهما : أن تاء التأنيث يلزم فتح ما قبلها لفظا أو تقديرا نحو : ثمرة وفتاة ، وهذه ساكن ما قبلها . والثاني : أن تاء التأنيث تبدل في الوقف هاء ، وهذه لا تبدل بل تقر على حالها . وقال أبو البقاء : " فإن قيل : لم رد المحذوف في "أخوات " ولم يرد في "بنات " ؟ قيل : حمل كل واحد من الجمعين على مذكره ، فمذكر [ ص: 641 ] "بنات " لم يرد إليه المحذوف بل قالوا فيه "بنون " ، ومذكر "أخوات " رد فيه محذوفه قالوا في جمع أخ : إخوة وإخوان " .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي قاله ليس بشيء لأنه أخذ جمع التكسير وهو إخوة وإخوان مقابلا لـ " أخوات "جمع التصحيح ، فقال : رد في أخوات كما رد في إخوة ، وهذا أيضا موجود في " بنات " ؛ لأن مذكره في التكسير رد إليه المحذوف . قالوا : ابن وأبناء ، ولما جمعوا أخا جمع السلامة قالوا فيه "أخون " بالحذف ، فردوا في تكسير ابن وأخ محذوفهما ، ولم يردوا في تصحيحهما ، فبان فساد ما قال .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وخالاتكم ألف "خالة " و "خال " منقلبة عن واو ، بدليل جمعه على "أخوال " ، قال تعالى : أو بيوت أخوالكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من الرضاعة : في موضع نصب على الحال فيتعلق بمحذوف تقديره : وأخواتكم كائنات من الرضاعة . وقرأ أبو حيوة : "من الرضاعة " بكسر الراء . من نسائكم فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من " ربائبكم " تقديره : "وربائبكم كائنات من نسائكم " . والثاني : أنه حال من الضمير المستكن في قوله : في حجوركم لأنه لما وقع صلة تحمل ضميرا ، أي : اللاتي استقررن في حجوركم .

                                                                                                                                                                                                                                      والربائب : جمع "ربيبة " وهي بنت الزوج أو الزوجة ، والمذكر : ربيب ، سميا بذلك ؛ لأن أحد الزوجين يربه كما يرب ابنه . وقوله : اللاتي في حجوركم لا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب . الحجور : جمع "حجر " [ ص: 642 ] بفتح الحاء وكسرها ، وهو مقدم ثوب الإنسان ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : اللاتي دخلتم بهن صفة لـ "نسائكم " المجرور بـ "من " ، اشترط في تحريم الربيبة أن يدخل بأمها .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا جائز أن تكون صفة لـ "نسائكم " الأولى والثانية لوجهين ، أحدهما : من جهة الصناعة ، وهو أن "نسائكم " الأولى مجرورة بالإضافة والثانية مجرورة بـ "من " فقد اختلف العاملان ، وإذا اختلفا امتنع النعت ، لا تقول : "رأيت زيدا ومررت بعمرو العاقلين " على أن يكون "العاقلين " نعتا لهما . والثاني من جهة المعنى : وهو أن أم المرأة تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل بها عند الجمهور ، والربيبة لا تحرم إلا بالدخول على أمها .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي كلام الزمخشري ما يلزم منه أنه يجوز أن يكون هذا الوصف راجعا إلى الأولى في المعنى فإنه قال : من نسائكم متعلق بـ "ربائبكم " ومعناه : أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها . فإن قلت : هل يصح أن يتعلق بقوله : وأمهات نسائكم ؟ قلت : لا يخلو : إما أن يتعلق بهن وبالربائب فتكون حرمتهن وحرمة الربائب غير مبهمتين جميعا ، وإما أن يتعلق بهن دون الربائب ، فتكون حرمتهن غير مبهمة وحرمة الربائب مبهمة ، ولا يجوز الأول لأن معنى "من " مع أحد المتعلقين خلاف معناها مع الآخر ، ألا تراك إذا قلت : "وأمهات نسائكم من [ ص: 643 ] نسائكم اللاتي دخلتم بهن " فقد جعلت "من " لبيان النساء وتمييزا للمدخول بهن من غير المدخول بهن ، وإذا قلت : "وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " فإنك جاعل "من " لابتداء الغاية كما تقول : "بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة " ، وليس بصحيح أن يعني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيين مختلفين ، ولا يجوز الثاني لأن الذي يليه هو الذي يستوجب التعليق به ما لم يعرض أمر لا يرد ، إلا أن تقول : أعلقه بالنساء والربائب ، وأجعل "من " للاتصال كقوله تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ، [وقال ] :


                                                                                                                                                                                                                                      1565 - ... ... ... ...     فإني لست منك ولست مني



                                                                                                                                                                                                                                      [وقوله ] :


                                                                                                                                                                                                                                      1566 - ما أنا من دود ولا دود مني



                                                                                                                                                                                                                                      وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن ، كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن ، هذا وقد اتفقوا على أن التحريم لأمهات النساء مبهم " . انتهى . ثم قال : " إلا ما روي عن علي وابن عباس وزيد وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤوا "وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن " فكان ابن عباس يقول : "والله ما أنزل إلا هكذا " فقوله : "أعلقه بالنساء والربائب " إلى [ ص: 644 ] آخره يقتضي أن القيد الذي في الربائب وهو الدخول في أمهات نسائكم ، كما تقدم حكايته عن علي وابن عباس . قال الشيخ : "ولا نعلم أحدا أثبت لـ " من "معنى الاتصال ، أما الآية والبيت والحديث فمؤولة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وحلائل جمع " حليلة "وهي الزوجة ، سميت بذلك لأنها تحل مع زوجها حيث كان ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، والزوج حليل كذلك ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1567 - أغشى فتاة الحي عند حليلها     وإذا غزا في الجيش لا أغشاها



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : اشتقاقها من لفظ الحلال ؛ إذ كل منهما حلال لصاحبه ، وهو قول الزجاج وجماعة ، فـ " فعيل "بمعنى مفعول أي : محللة له وهو محلل لها ، إلا أن هذا يضعفه دخول التأنيث ، اللهم إلا أن يقال إنه جرى مجرى الجوامد كالنطيحة والذبيحة . وقيل : هما من لفظ " الحل "ضد العقد ؛ لأن كلا منهما يحل إزار صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين من أصلابكم صفة مبينة ؛ لأن الابن قد يطلق على المتبنى به وليست امرأته حراما على من تبناه ، وأما الابن من الرضاع فإنه وإن كان حكمه حكم ابن الصلب في ذلك فمبين بالسنة فلا يرد على الآية الكريمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصلاب : جمع " صلب "وهو الظهر ، سمي بذلك لقوته اشتقاقا من الصلابة ، وأفصح لغتيه : صلب بضم الفاء وسكون العين وهي لغة الحجاز ، [ ص: 645 ] وبنو تميم وأسد يقولون " صلبا بفتحهما ، حكى ذلك الفراء عنهم في كتاب "لغات القرآن " له ، وأنشد عن بعضهم :


                                                                                                                                                                                                                                      1568 - في صلب مثل العنان المؤدم



                                                                                                                                                                                                                                      وحكى عنهم : "إذا أقوم اشتكى صلبي " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأن تجمعوا في محل رفع عطفا على مرفوع "حرمت " أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين ، والمراد الجمع بينهما في النكاح ، أما في الملك فجائز اتفاقا ، وأما الوطء بملك اليمين ففيه خلاف ليس هذا موضعه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا ما قد سلف استثناء منقطع ، فهو منصوب المحل كما تقدم في نظيره أي : لكن ما مضى في الجاهلية فإن الله يغفره . وقيل : المعنى إلا ما عقد عليه قبل الإسلام ، فإنه بعد الإسلام يبقى النكاح على صحته ، ولكن يختار واحدة منهما ويفارق الأخرى ، وكان قد تقدم قريب من هذا المعنى في ما قد سلف الأول ويكون الاستثناء عليه متصلا ، وهنا لا يتأتى الاتصال البتة لفساد المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية