الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (31) قوله : كم أهلكنا : " كم " هنا خبرية فهي مفعول بـ " أهلكنا " تقديره : كثيرا من القرون أهلكنا . وهي معلقة لـ " يروا " ذهابا بالخبرية مذهب الاستفهامية . وقيل : بل " يروا " علمية ، و " كم " استفهامية كما سيأتي بيانه .

                                                                                                                                                                                                                                      و أنهم إليهم لا يرجعون فيه أوجه ، أحدها : أنه بدل من " كم " قال [ ص: 261 ] ابن عطية : " وكم هنا خبرية ، و " أنهم " بدل منها ، والرؤية بصرية " . قال الشيخ : " وهذا لا يصح ; لأنها إذا كانت خبرية كانت في موضع نصب بـ " أهلكنا " . ولا يسوغ فيها إلا ذلك . وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون " أنهم " بدلا منها ; لأن البدل على نية تكرار العامل . ولو سلطت أهلكنا على " أنهم " لم يصح ; ألا ترى أنك لو قلت : أهلكنا انتفاء رجوعهم ، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون ، لم يكن كلاما . لكن ابن عطية توهم أن " يروا " مفعوله " كم " فتوهم أن قوله : أنهم إليهم لا يرجعون بدل منه ; لأنه يسوغ أن يسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون . وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية " . قلت : وهذا الإنحاء تحامل عليه ; لأنه لقائل أن يقول : " كم " قد جعلها خبرية ، والخبرية يجوز أن تكون معمولة لـ ما قبلها عند قوم ، فيقولون : " ملكت كم عبد " فلم يلزم الصدر ، فيجوز أن يكون بنى هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل " كم " منصوبة بـ " يروا " و " أنهم " بدل منها ، وليس هو ضعيفا في العربية حينئذ .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن " أنهم " بدل من الجملة قبله . قال الزجاج : " هو بدل من الجملة ، والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون ; لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى " . قال الشيخ : " وليس بشيء ; لأنه ليس بدلا صناعيا ، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو " . قلت : بل هو بدل صناعي ; لأن الجملة في قوة المفرد ; إذ هي سادة مسد مفعول " يروا " فإنها معلقة لها كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 262 ] الثالث : قال الزمخشري : " ألم يروا " ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في " كم " لأن " كم " لا يعمل فيها عامل قبلها - كانت للاستفهام أو للخبر - لأن أصلها الاستفهام ، إلا أن معناها نافذ في الجملة كما نفذ في قولك : " ألم يروا إن زيدا لمنطلق " وإن لم يعمل في لفظه ، وأنهم إليهم لا يرجعون : بدل من " كم أهلكنا " على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " قوله لأن " كم " لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر " ليس على إطلاقه ; لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسما مضافا جاز أن يعمل فيها نحو : " على كم جذع بيتك ؟ وابن كم رئيس صحبت ؟ وعلى كم فقير تصدقت أرجو الثواب ؟ وابن كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه ؟ " . وقوله : " أو للخبر " والخبرية فيها لغتان : الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار ، واللغة الأخرى حكاها الأخفش يقولون : " ملكت كم غلام " أي : ملكت كثيرا من الغلمان . فكما يجوز تقدم العامل على كثيرا كذلك يجوز على " كم " لأنها بمعناها . وقوله : " لأنها أصلها الاستفهام ، والخبرية ليس أصلها الاستفهام " بل كل واحدة أصل بنفسها ، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر . وقوله : " لأن معناها نافد في الجملة " يعني معنى " يروا " نافذ في الجملة ; لأنه جعلها معلقة وشرح " يروا " بـ يعلموا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : " كما نفذ في قولك : ألم يروا إن زيدا لمنطلق " يعني أنه لو كان معمولا من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت " إن " فإن " إن " التي في [ ص: 263 ] خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب . وقوله : " إنهم إليهم " إلى آخره كلامه لا يصح أن يكون بدلا لا على اللفظ ولا على المعنى . أما على اللفظ فإنه زعم أن " يروا " معلقة فتكون " كم " استفهامية فهي معمولة لـ " أهلكنا " ، و " أهلكنا " لا يتسلط على أنهم إليهم لا يرجعون . وقد تقدم لنا ذلك . وأما على المعنى فلا يصح أيضا لأنه قال : تقديره : أي على المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ، فكونهم غير راجعين ليس كثرة الإهلاك ، فلا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ; لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه ، وكذلك بدل بعض من كل . وهذا لا يصح هنا . لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم ، وفي بدل الاشتمال نحو : " أعجبتني الجارية ملاحتها ، وسرق زيد ثوبه " يصح : " أعجبتني ملاحة الجارية ، وسرق ثوب زيد " .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن يكون " أنهم " بدلا من موضع " كم أهلكنا " ، والتقدير : ألم يروا أنهم إليهم . قاله أبو البقاء . ورده الشيخ : بأن " كم أهلكنا " ، ليس بمعمول لـ " يروا " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : قد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنها معلقة لها .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : - وهو قول الفراء - أن يكون " يروا " عاملا في الجملتين من غير إبدال ، ولم يبين كيفية العمل . وقوله " الجملتين " تجوز ; لأن " أنهم " ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مسند ومسند إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      السادس : أن " أنهم " معمول لفعل محذوف دل عليه السياق والمعنى ، [ ص: 264 ] تقديره : قضينا وحكمنا أنهم لا يرجعون . ويدل على صحة هذا قراءة ابن عباس والحسن " إنهم " بكسر الهمزة على الاستئناف ، والاستئناف قطع لهذه الجملة مما قبلها فهو مقو لأن تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها . والضمير في " أنهم " عائد على معنى " كم " وفي " إليهم " عائد على ما عاد عليه واو " يروا " . وقيل : بل الأول عائد على ما عاد عليه واو " يروا " . والثاني عائد على المهلكين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية