الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ) : هو على حذف مضاف أي : وليعلم إيمان المؤمنين ، ويعلم نفاق الذين نافقوا . أو المعنى : وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين . وقيل : ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقا للعلم الذي لم يزل ولا يزال . وقيل : ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء . وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله : ( لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب ) وقالوا : تتعلق الآية بمحذوف أي : ولكذا فعل ذلك . والذي يظهر : أنه معطوف على قوله : " بإذن الله " عطف السبب على السبب . ولا فرق بين الباء واللام ، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله : فهو كائن . والذين نافقوا هنا عبد الله بن أبي وأصحابه .

( وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ) : القائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، أبو جابر بن عبد الله ، لما انخذل عبد الله بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد الله فقال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم ، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، ونحو هذا من القول . فقال عبد الله بن أبي : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمناه لكنا معكم . فلما يئس منهم عبد الله قال : اذهبوا أعداء الله ، فسيغني الله عنكم ، ومضى حتى استشهد . قال السدي ، وابن جريج ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، والفراء : معناه : كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير . وقال أبو عون الأنصاري معناه : رابطوا ، وهو قريب من الأول ؛ لأن المرابط في الثغور دافع للعدو ؛ إذ لولاه لطرقها . قال أنس : رأيت عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع يجر أطرافها ، وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك ؟ قال : بلى ، ولكني أكثر المسلمين بنفسي . وقيل : القتال بالأنفس ، والدفع بالأموال . وقيل : المعنى : أو ادفعوا حمية ؛ لأنه لما دعاهم أولا إلى أن يقاتلوا في سبيل الله وجد عزائمهم منحلة عن ذلك ، إذ لا باعث لهم في ذلك ؛ لنفاقهم ، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة ، فنبه على ما يقاتل لأجله : إما لإعلاء الدين ، أو لحمى الذمار . ألا ترى إلى قول قزمان : والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي ، وقول الأنصاري وقد رأى قريشا ترعى زرع قناه : أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب ، مع أنه أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره .

و " أو " على بابها من أنها لأحد الشيئين . وقيل : يحتمل أن تكون بمعنى الواو ، فطلب منهم الشيئين : القتال في سبيل الله ، والدفع عن الحريم والأهل والمال . فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب ، والظاهر أن قوله : وقيل لهم : كلام مستأنف . قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة ، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم . حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب ، ويحتمل أن يكون قوله : وقيل لهم معطوف على نافقوا ، فيكون من الصلة .

( قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) : إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال ، كأنه قيل : فماذا قالوا ؟ فقيل : قالوا لو نعلم ، ونعلم هنا في معنى علمنا ؛ لأن لو من القرائن التي تخلص المضارع لمعنى الماضي إذا كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، فإذا كانت بمعنى إن الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال . ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال ، وعلمهم للقتال منتف ، فانتفى الاتباع ، وإخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إما على سبيل المكابرة والمكاذبة ؛ إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد ، وخرج إليهم العسكر الآخر من [ ص: 110 ] بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله ، وإن كانوا أقل من أولئك - أنه سينشب بينهم قتال لا محالة ، فأنكروا علم ذلك رأسا ؛ لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين . وإما على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله . وليس كذلك ، إنما هو رمي النفوس في التهلكة ؛ إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين ؛ لأن رأي عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهرا للمؤمنين ، وما كان يستصوب الخروج كما مر ذكره في قصة أحد .

( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) : وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب أنهم كانوا يظهرون الإيمان ، ولم تكن تظهر لهم أمارة تدل على الكفر ، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قربا للكفر ، وتباعدوا عن الإيمان . وقيل : هو على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ؛ لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين .

وأقرب هنا أفعل تفضيل ، وهي من القرب المقابل للبعد . ويعدى بإلى وباللام وبمن ، فيقال : زيد أقرب لكذا ، وإلى كذا ، ومن كذا من عمرو . فمن الأولى ليست التي يتعدى بها أفعل التفضيل مطلقا في نحو : زيد أفضل من عمرو . وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب ، وهذا من خواص أفعل التفضيل ، أنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ، وليس أحدهما معطوفا على الآخر ، ولا بدلا منه ، بخلاف سائر العوامل ، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف ، أو على سبيل البدل . فتقول : زيد بالنحو أبصر منه بالفقه .

والعامل في " يومئذ " : " أقرب " . و " منهم " متعلق بأقرب أيضا ، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة ، أي : هم قوم إذ قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم . وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش : إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد ، وإنما هو من القرب بفتح القاف والراء وهو المطلب ، والقارب طالب الماء ، وليلة القرب ليلة الوداد ، فاللفظة بمعنى الطلب . ويتعين على هذا القول التعدية باللام ، ولا يجوز أن تعدى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل ، وصار نظير : زيد أقرب لعمرو من بكر . وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم . قال الحسن : إذا قال الله : أقرب ، فهو اليقين بأنهم مشركون . كقوله : " مائة ألف أو يزيدون " ، فالزيادة لا شك فيها ، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان . فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر .

وقال الواحدي في الوسيط : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ؛ لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم ، مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله . قال الماتريدي : أقرب أي ألزم على الكفر ، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة ، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود ؛ لقوله : ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود ، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم ، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، وصفوا به . ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ، فهو أقرب إلى الكفر . أو من حيث قالوا للمؤمنين : " ألم نكن معكم " ، وللكافرين : " ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب . فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر ، أو من حيث إنهم أحق به أن يعرفوا . كما جعل الله لهم أعلاما يعرفون بها ، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه ، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أربابا ، أو لتقربهم بها إلى الله ، فإذا أصابتهم شدة فزعوا إلى الله ، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدة والرخاء .

( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) : أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم ، ويحفظون أهليهم [ ص: 111 ] من السبي ، وأموالهم من النهب . وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم ، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها ، ولم تع قلوبهم منه شيئا . وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم في قلوبهم ، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم . قال ابن عطية : بأفواههم توكيد مثل : يطير بجناحيه . انتهى . ولا يظهر أنه توكيد ؛ إذ القول ينطلق على اللساني والنفساني ، فهو مخصص لأحد الانطلاقين ، إلا إن قلنا : إن إطلاقه على النفساني مجاز ، فيكون إذ ذاك توكيدا لحقيقة القول .

( والله أعلم بما يكتمون ) : أي من الكفر وعداوة الدين . وقال : " أعلم " ؛ لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته ، ونحن نعلم بعض ذلك علما مجملا . وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم ؛ إذ المعنى : ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية