الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) : قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة . ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات . وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا . وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .

( يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . ومعتب هذا شهد بدرا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصا عليه بالنفاق . والمعنى : ما قتل أشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازا .

وقوله : " يقولون " يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيرا بعد إبهام قوله : " ما لا يبدون لك " . ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض .

وقوله : " من الأمر " فسر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي ابن سلول : هل لنا من الأمر من شيء . فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد : إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون - لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير ، وقيل : من دين محمد ، أي لسنا على حق في اتباعه .

وجواب " لو " هو الجملة المنفية بما . وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام .

قيل : وفي قصة أحد اضطراب . ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحدا ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله : " هاهنا " ، وحديث الزبير في سماعه معتبا يقول ذلك دليل على أن معتبا حضر أحدا ! فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحدا ، فيتجه قوله : " هاهنا " ، وإن لم يصح فيوجه قوله : " هاهنا " إلى أنه إشارة إلىأحد إشارة القريب الحاضر ؛ لقرب أحد من المدينة .

( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) : هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري ، وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضروب من المعقول نحو : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر ) وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي ، ومنه قول الشاعر :


جرى القضاء بما فيه فإن تلم فلا ملام على ما خط بالقلم

وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال . ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرئ له أجل واحد لا يتعداه . فإن قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلا مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض ، هو أجل واحد لكل امرئ وإن تعددت الأسباب . وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته . فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني - من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع - وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ؛ ليكون ما علم أنه يكون . والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون ؛ لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله . وإنما ينكبون به في بعض الأوقات ؛ تمحيصا لهم ، وترغيبا في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة . انتهى كلامه . وهو نوع من الخطابة ، والمعنى في الآية واضح جدا لا [ ص: 90 ] يحتاج إلى هذا التطويل .

وقرأ الجمهور : " لبرز " ثلاثيا مبنيا للفاعل . أي لصاروا في البراز من الأرض . وقرأ أبو حيوة : " لبرز " مبنيا للمفعول مشدد الراء ، عدى برز بالتضعيف . وقرأ الجمهور : " كتب " مبنيا للمفعول ، ورفع القتل . وقرئ : " كتب " مبنيا للفاعل ، ونصب القتل . وقرأ الحسن والزهري : " القتال " مرفوعا . وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم .

( وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ) تقدم معنى الابتلاء والتمحيص . فقيل : المعنى إن الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم . وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر . وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيبا كقوله : ( فينظر كيف تعملون ) . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم ، فأضافه إليه تعالى تفخيما لشأنه . والواو قيل : زائدة . وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي الله أمره وليبتلي . وقال ابن بحر : عطف على " ليبتليكم " ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص . وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة . وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال : ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد .

( والله عليم بذات الصدور ) : تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه .

التالي السابق


الخدمات العلمية