الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) نزلت هذه الآية في قوم كفار . روي عن ابن عباس ، و مجاهد ، وابن زيد ، و حضرمي : أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد ، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك ، وأمروا بالبخل على جهتين : أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد وقالوا للأنصار : لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون ؟ وقيل : نزلت في المنافقين . وقيل : في مشركي مكة .

وعلى اختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون . وقيل : هي عامة في كل من يبخل ويأمر بالبخل من اليهود وغيرهم . والبخل في كلام العرب : منع السائل شيئا مما في يد المسئول من المال ، وعنده فضل . قال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس . والبخل في الشريعة ، هو منع الواجب . وقال الراغب : لم يرد البخل بالمال ، بل بجميع ما فيه نفع للغير . انتهى . ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما من المحتاجين على سبيل ابتداع أمر الله ، بين أن من لا يفعل ذلك قسمان . أحدهما : البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال ألبتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل . والثاني : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، لا لغرض أمر الله وامتثاله وطاعته . وذم تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول : وأعتدنا للكافرين ، وأعقب الثاني بقوله : ( ومن يكن الشيطان له قرينا ) .

والبخل أنواع : بخل بالمال ، وبخل بالعلم وبخل بالطعام ، وبخل بالسلام ، وبخل بالكلام ، وبخل على الأقارب دون الأجانب ، وبخل بالجاه ، وكلها نقائض ورذائل مذمومة عقلا وشرعا وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل ، منها : ( خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ، وظاهر قوله : بالبخل أنه متعلق بقوله : ويأمرون ، كما تقول : أمرت زيدا بالصبر ، فالبخل مأمور به . وقيل : متعلق الأمر محذوف ، والباء في ( بالبخل ) حالية ، والمعنى : ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل ، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله :


أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما تيه الملوك وأفعال المماليك



وقرأ الجمهور : بالبخل بضم الباء وسكون الخاء . و عيسى بن عمرو والحسن : بضمهما . و حمزة الكسائي : بفتحهما ، وابن الزبير والسدي وجماعة بفتح الباء ، وسكون الخاء . وهي كلها لغات . قال الفراء : البخل [ ص: 247 ] مثقلة لأسد ، والبخل خفيفة لتميم ، والبخل لأهل الحجاز . ويخففون أيضا فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة ، وبعض بكر بن وائل يقولون البخل قال جرير :


تريدين أن نرضى وأنت بخيلة     ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل



وأنشدني المفضل :


وأوفاهم أوان بخل

وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين :


وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده     لذو بخل كل على من يصاحب



واختلفوا في إعراب الذين يبخلون ، فقيل : هو في موضع نصب ، بدل من قوله : من كان . وقيل : من قوله مختالا فخورا . أفرد اسم ( كان ) والخبر على لفظ ( من ) ، وجمع الذين حملا على المعنى . وقيل : انتصب على الذم . ويجوز عندي أن يكون صفة لمن ، ولم يذكروا هذا الوجه . وقيل : هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين . وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلا من الضمير في فخورا ، وهو قلق . فهذه ستة أوجه يكون فيها ( الذين يبخلون ) متعلقا بما قبله ، ويكون الباخلون منفيا عنهم محبة الله تعالى ، وتكون الآية إذا في المؤمنين ، والمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى الله ، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم ، وهي : الخيلاء ، والفخر ، والبخل ، والأمر به ، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال . وقيل : الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء ، واختلفوا في الخبر : أهو محذوف ؟ أم ملفوظ به ؟ فقيل : هو ملفوظ به وهو قوله : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ) ويكون الرابط محذوفا تقديره : مثقال ذرة لهم ، أو لا يظلمهم مثقال ذرة . وإلى هذا ذهب الزجاج ، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر ، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ ، معناه : انتظاما واضحا لأن سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهر من قوله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، بل مساق إن الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخبارا عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس . وقيل : هو محذوف فقدره الزمخشري : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة . وقدره ابن عطية : معذبون أو مجازون ونحوه . وقدره أبو البقاء : أولئك قرناؤهم الشيطان ، وقدره أيضا : مبغضون . ويحتمل أن يكون التقدير : كافرون ( وأعتدنا للكافرين ) فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفرا حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبإظهار نبوته . والأمر بالبخل لأتباعهم أي : بكتمان ذلك ، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوته وشريعته ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين حقيقة ، فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم : أنها في المؤمنين ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية ، والآية على هذه التقادير وقول الزجاج - في الكفار ، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم . وتقدم تفسير البخل والأمر به والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول . وأعتدنا للكافرين : أي أعددنا وهيأنا . والعتيد : الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل ، وهو أنكى وأشد على المعذب .

التالي السابق


الخدمات العلمية