الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يريدون أن يخرجوا من النار ) أي : يرجون ، أو يتمنون ، أو يكادون ، أو يسألون : أقوال متقاربة من حيث المعنى ، والإرادة ممكنة في حقهم ، فلا ينبغي أن تخرج عن ظاهرها . قال الحسن : إذا فارت بهم [ ص: 475 ] النار فروا من بأسها ، فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون فيه ، وذلك قوله : يريدون أن يخرجوا من النار . وقيل لجابر بن عبد الله : إنكم يا أصحاب محمد تقولون : إن قوما يخرجون من النار ، والله تعالى يقول : ( وما هم بخارجين منها ) فقال جابر إنما هذا في الكفار خاصة . وحكى الطبري عن نافع بن الأزرق الخارجي أنه قال لابن عباس : يا أعمى البصر ، يا أعمى القلب ، أتزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : وما هم بخارجين منها ؟ فقال له ابن عباس : اقرأ ما فوق ، هذه الآية في الكفار . وقال الزمخشري : وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس ، وذكر الحكاية ، ثم قال : فمما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وافترائهم ، وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق لابن عم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو بين أظهر أعضاده من قريش ، وأنضاده من بني عبد المطلب ، وهو حبر هذه الأمة وبحرها ، ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، وبرفعه إلى عكرمة - دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية . انتهى . وهو على عادته وسفاهته في سب أهل السنة ، ومذهبه : أن من دخل النار لا يخرج منها . وقرأ الجمهور : أن يخرجوا ; مبنيا للفاعل ، ويناسبه : وما هم بخارجين منها . وقرأ النخعي ، وابن وثاب ، وأبو واقد : أن يخرجوا ; مبنيا للمفعول .

( ولهم عذاب مقيم ) أي : متأبد لا يحول . ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) قال السائب : نزلت في طعمة بن أبيرق ، ومضت قصته [ ص: 476 ] في النساء . ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، ثم أمر بالتوقي لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة ، ثم ذكر حال الكفار - ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن ، والأرجل بالسنة ; على ما يأتي ذكره ، وهو أيضا حرابة من حيث المعنى ، لأن فيه سعيا بالفساد إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر ، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة ، وهو ظاهر النص . يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى ، سرق شيئا ما ، قليلا أو كثيرا ، قطعت يده ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين منهم : الحسن ، وهو مذهب الخوارج وداود .

وقال داود ومن وافقه : لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة ، بل أقل شيء يسمى مالا ، وفي أقل شيء يخرج الشح والضنة . وقيل : النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعدا ، أو قيمتها من غيرها ، روي ذلك عن : ابن عباس ، وابن عمرو أيمن الحبشي ، وأبي جعفر ، وعطاء ، وإبراهيم ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، ومحمد . وقيل : ربع دينار فصاعدا ، وروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة ، وعمر بن عبد العزيز ، وهو قول : الأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأبي ثور ; وقيل : خمسة دراهم ; وهو قول : أنس ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، والزهري . وقيل : أربعة دراهم ; وهو مروي عن أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة . وقيل : ثلاثة دراهم ; وهو قول : ابن عمر ، وبه قال مالك ، وإسحاق ، وأحمد ، إلا إن كان ذهبا فلا تقطع إلا في ربع دينار . وقيل : درهم فما فوقه ، وبه قال عثمان البتي . وقطع عبد الله بن الزبير في درهم . وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه .

وقرأ الجمهور : والسارق والسارقة ; بالرفع . وقرأ عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ، وقال الخفاف : وجدت في مصحف أبي : والسرق والسرقة ، بضم السين المشددة فيهما ، كذا ضبطه أبو عمرو . قال ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط ، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه . والرفع في ، والسارق والسارقة ، على الابتداء ، والخبر محذوف والتقدير : فيما يتلى عليكم ، أو فيما فرض عليكم ; السارق والسارقة أي : حكمهما . ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله : فاقطعوا ، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور ; أي : جملة صالحة لأداة الشرط . والموصول هنا أل ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول ، وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه . وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني : أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور ، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه : الذي سرق والتي سرقت . ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك ، تأوله على إضمار الخبر ، فيصير تأوله : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة - جملة ظاهرها أن تكون مستقلة ، ولكن المقصود هو في قوله : فاقطعوا ، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية ، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى . وقرأ عيسى بن عمر ، وابن أبي عبلة : والسارق والسارقة ، بالنصب على الاشتغال . قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول : زيدا فاضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ، يعني عامة القراء وجلهم . ولما كان معظم القراء على الرفع ، تأوله سيبويه على وجه يصح ، وهو أنه جعله مبتدأ ، والخبر محذوف ، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجا على غير الوجه في كلام العرب ، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده . وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر المدعو بالفخر الرازي بن خطيب الري على سيبويه وقال عنه ما لم يقله فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء ، ويدل على فساده وجوه : الأول : أنه طعن في القراءة [ ص: 477 ] المنقولة بالمتواتر عن الرسول ، وعن أعلام الأمة ، وذلك باطل قطعا . ( قلت ) : هذا تقول على سيبويه ، وقلة فهم عنه ، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع ، بل وجهها التوجيه المذكور ، وأفهم أن المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه ، وكون جملة الأمر خبره ، أو لم ينصب الاسم ، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيدا اضربه ، على ما تقرر في كلام العرب ، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر ، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء . فقوله : أبت العامة إلا الرفع - تقوية لتخريجه ، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء ؛ لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز ، إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبرا عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال ، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر ، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب . فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر ، فكيف يكون طاعنا في الرفع ؟ وقد قال سيبويه : وقد يحسن ويستقيم : عبد الله فاضربه ، إذا كان مبنيا على مبتدأ مضمر أو مظهر ، فأما في المظهر فقولك : هذا زيد فاضربه ; وإن شئت لم تظهر هذا ، ويعمل عمله إذا كان مظهرا وذلك قولك : الهلال والله فانظر إليه ، فكأنك قلت : هذا الهلال ، ثم جئت بالأمر . ومن ذلك قول الشاعر :

وقائلة خولان فانكح فتاتهم وأكرومة الحيين خلو كما هيا

هكذا سمع من العرب تنشده . انتهى . فإذا كان سيبويه يقول : وقد يحسن ويستقيم . عبد الله فاضربه ، فكيف يكون طاعنا في الرفع ، وهو يقول : أنه يحسن ويستقيم ؟ لكنه جوزه على أن يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر ، كما تأوله في السارق والسارقة ، أو خبر مبتدأ محذوف ، كقوله : الهلال ، والله ، فانظر إليه .

وقال الفخر الرازي : ( فإن قلت ) - يعني سيبويه - : لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ، ولكني أقول : القراءة بالنصب أولى ، فنقول له : هذا أيضا رديء ، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود . ( قلت ) : هذا السؤال لم يقله سيبويه ، ولا هو ممن يقوله ، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه ! وأيضا فقوله : لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين - تشنيع وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه ، وليس كذلك ، بل قراءته مستندة إلى [ ص: 478 ] الصحابة وإلى الرسول ، فقراءته قراءة الرسول أيضا ، وقوله : وجميع الأمة ، لا يصح هذا الإطلاق لأن عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة . وقال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، فأخبر أنها قراءة ناس . وقوله : وجميع الأمة لا يصح هذا العموم . قال الفخر الرازي : الثاني من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه : أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ : ( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ) بالنصب ، ولما لم يوجد في القراءة أحد قرأ كذلك ، علمنا سقوط هذا القول . ( قلت ) : لم يدع سيبويه أن قراءة النصب أولى فيلزمه ما ذكر ، وإنما قال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع . ويعني سيبويه بقوله : من القوة ، لو عري من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، ولكن أبت العامة ; أي : جمهور القراء ، إلا الرفع ; لعلة دخول الفاء ، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبرا لهذا المبتدأ ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع . ولذلك لما ذكر سيبويه اختيار النصب في الأمر والنهي ، لم يمثله بالفاء بل عاريا منها . قال سيبويه : وذلك [ ص: 479 ] قولك : زيدا اضربه وعمرا أمرر به ، وخالدا اضرب أباه ، وزيدا اشتر له ثوبا ; ثم قال : وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم وذلك قوله : عبد الله فاضربه ، ابتدأت عبد الله فرفعت بالابتداء ، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه ، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر . فإذا قلت : زيدا فاضربه ، لم يستقم ، لم تحمله على الابتداء . ألا ترى أنك لو قلت : زيد فمنطلق ، لم يستقم ؟ فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ يعني مخبرا عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء الجائز دخولها على الخبر . ثم قال سيبويه : فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره . لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء وجملة الأمر خبره لأجل الفاء - أجاز نصبه على الاشتغال ، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ .

وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه : أن الجملة الواقعة أمرا بغير فاء بعد اسم - يختار فيه النصب ويجوز فيه الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، فإن دخلت عليه الفاء فإما أن تقدرها الفاء الداخلة على الخبر ، أو عاطفة ، فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ وجملة الأمر خبره ، إلا إذا كان المبتدأ أجري مجرى اسم الشرط لشبهه به ، وله شروط ذكرت في النحو . وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعا ، إما مبتدأ كما [ ص: 480 ] تأول سيبويه في قوله : والسارق والسارقة ، وإما خبر مبتدأ محذوف كما قيل : القمر والله فانظر إليه . والنصب على هذا المعنى دون الرفع ، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء ، وإلى حذف الفعل الناصب ، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها . فإذا قلت زيدا فاضربه ، فالتقدير : تنبه فاضرب زيدا اضربه ; حذفت تنبه ، وحذفت اضرب ، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر ، وكان الرفع أولى ، لأنه ليس فيه لا حذف مبتدأ ، أو حذف خبر . فالمحذوف أحد جزئي الإسناد فقط ، والفاء واقعة في موقعها ، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام والمعنى . قال سيبويه : وأما قوله عز وجل : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ) ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فإن هذا لم يبن على الفعل ، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) ثم قال بعد فيها : ( أنهار فيها ) كذا وكذا ، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده ، وذكر بعد أخبار وأحاديث كأنه قال : ومن القصص مثل الجنة أو مما نقص عليكم مثل الجنة ، فهو محمول على هذا الإضمار أو نحوه ، والله أعلم . وكذلك الزانية والزاني ; لما قال تعالى : ( سورة أنزلناها وفرضناها ) قال في الفرائض : ( الزانية والزاني أو الزانية والزاني ) في الفرائض ، ثم قال : فاجلدوا ، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع كما قال . وقائلة خولان فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير ، وكذلك السارق والسارقة . كأنه قال : مما فرض عليكم السارق والسارقة ، أو السارق والسارقة فيما فرض عليكم . وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث . انتهى .

فسيبويه إنما اختار هذا التخريج لأنه أقل كلفة من النصب مع وجود الفاء ، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ ، لأن سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة . فالآيتان عنده من باب زيد فاضربه ، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية