الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) نزلت في مقيس بن صبابة ؛ حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار ؛ فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ؛ فقتله مقيس ، ورجع إلى مكة مرتدا ، وجعل ينشد :


قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع     حللت به وتري وأدركت ثورتي
وكنت إلى الأوثان أول راجع

فقال : لا أؤمنه في حل ولا حرم وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة ؛ وهذا السبب يخص عموم قوله : ومن يقتل ؛ فيكون خاصا بالكافر ، أو يكون على ما قال ابن عباس ؛ قال : معنى متعمدا ; أي مستحلا ؛ فهذا يئول أيضا إلى الكفر . وأما إذا كانت عامة ؛ فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي ؛ والمعنى : فجزاؤه - إن جازاه - أي هو ذلك ومستحقه ; لعظم ذنبه . هذا مذهب أهل السنة . ويكون الخلود عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل ، لا المقترن بالتأبيد ; إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار .

وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها ؛ لقوله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ، واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة يريد نزلت : ومن يقتل مؤمنا بعدو يغفر ما دون ذلك ؛ فكأنه قيل ، ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل عمدا . وقد نازعوا في دلالة من الشرطية على العموم . وقيل هو لفظ يقع كثيرا للخصوص كقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر . وقال الشاعر :


ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم     ومن لا يظلم الناس يظلم

وإذا سلم العموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمدا أو أقر بأنه قتل عمدا ، وأتى السلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل ، فهذا غير متبع في الآخرة . والوعيد غير صائر إليه إجماعا للحديث الصحيح من حديث عبادة : أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له وهذا تخصيص للعموم . وإذا دخله التخصيص فيكون مختصا بالكافر ويشهد له سبب النزول كما قدمنا .

ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل ، وتكلم فيها المفسرون هنا . فقالت جماعة : لا تقبل توبته . روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس . وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل سهمان من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان ؛ لأنها مكية . وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهم منه أنه قتل قال له : توبتك مقبولة ، ومن لم يقتل قال : لا توبة للقاتل . وروي عن ابن عباس في تفسير عبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب . وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له . قال الزمخشري : وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ؛ وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلا . وفي الحديث : من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله .

والعجب من قوم يقرءون هذه الآية [ ص: 327 ] ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية وقول ابن عباس مع التوبة ، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ؛ ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسما للأطماع وأي حسم ؛ ولكن لا حياة لمن تنادي . فإن قلت : هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر ؟ قلت : ما أبين الدليل فيها ، وهو تناول قوله : ( ومن يقتل ) ، أي قاتل كان من مسلم أو كافر تائب أو غير تائب إلا أن التائب أخرجه الدليل . فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله ، انتهى كلامه . وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع . وأما قوله : ما أبين الدليل فيها ؛ فليس بين ؛ لأن المدعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر ، وهذا عام في الكبائر . والآية في كبيرة مخصوصة وهي : القتل لمؤمن عمدا ؛ وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ؛ فيجوز أن تكون هذه الكبيرة المخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر ؛ مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ؛ فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر .

فظهر أن قوله : ما أبين الدليل منها غير صحيح . واختلفوا في ما به يكون قتل العمد . وفي الحر يقتل عبدا عمدا مؤمنا ؛ هل يقتص منه ؟ وذلك موضح في كتب الفقه . وانتصب متعمدا على الحال من الضمير المستكن في ( يقتل ) ، والمعنى : متعمدا قتله . وروى عبدان عن الكسائي : تسكين تاء متعمدا ؛ كأنه يرى توالي الحركات . وتضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعا : التتميم في : ومن أصدق من الله حديثا ، والاستفهام بمعنى الإنكار في : فما لكم في المنافقين ، وفي : أتريدون أن تهدوا . والطباق في : ( أن تهدوا من أضل الله ) . والتجنيس المماثل في : ( لو تكفرون كما كفروا ) ، وفي : ( بينكم وبينهم ) ، وفي : ( أن يقاتلوكم أو يقاتلوا ) ، وفي : ( أن يأمنوكم ويأمنوا ) ، وفي : ( خطأ ) و ( خطأ ) . والاستعارة في : ( بينكم وبينهم ) ، وفي : ( حصرت صدورهم ) ، وفي : ( فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم ) ، وفي : ( سبيلا ) و ( كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ) الآية . والاعتراض في : ولو شاء الله لسلطهم . والتكرار في مواضع . والتقسيم في : ومن قتل إلى آخره . والحذف في مواضع . ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) . المغنم : مفعل من غنم ؛ يصلح للزمان والمكان والمصدر ، ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعول بالمصدر ; أي المغنوم ، وهو ما يصيبه الرجل من مال العدو في الغزو . المراغم : مكان المراغمة ، وهي أن يرغم كل واحد من المتنازعين بحصوله في منعة منه أنف صاحبه بأن [ ص: 328 ] يغلب على مراده يقال : راغمت فلانا إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك . والرغم الذل والهوان ، وأصله : لصوق الأنف بالرغام ، وهو التراب .

التالي السابق


الخدمات العلمية