الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) ظاهر هذه الجملة أنه أمر بخشية الله واتقائه . والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على وذلك بكونه هو يترك ذرية ضعافا ، فيدخل في ذلك ولاة الأيتام ، وبه فسر ابن عباس . والذي ينهى المحتضر عن الوصية لذوي القربى ، ومن يستحق ويحسن له الإمساك على قرابته وأولاده . وبه فسر مقسم وحضرمي ، والذي يأمر المحتضر بالوصية لفلان وفلان ويذكره بأن يقدم لنفسه ، وقصده إيذاء ورثته بذلك . وبه فسر ابن عباس أيضا و قتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد . وقالت فرقة : المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ، وإن لم يكونوا في حجرهم . وأن يسددوا لهم القول كما يحبون أن يفعل بأولادهم . قال الزمخشري : ويجوز أن يتصل بما قبله ، وأن يكون آمرا للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين ، وأن يتصور أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين ، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخشية ؟ انتهى كلامه . وهو ممكن أن يكون مرادا . قال القاضي : الأليق بما تقدم وما تأخر أن يكون من الآيات الواردة في الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم به إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أن هذا من أقوى البواعث في هذا المقصود على الاحتياط فيه .

وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر بكسر لام الأمر في : ( وليخش ) ، وفي : ( فليتقوا ) ، ( وليقولوا ) . وقرأ الجمهور بالإسكان . ومفعول ( وليخش ) محذوف ، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة ، أي الله ، ويحتمل أن يكون هذا الحذف على طريق الإعمال ، أعمل ( فليتقوا ) . وحذف معمول الأول ، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصارا ، فكان حذفه اختصارا أجوز ، ويصير نحو قولك : أكرمت فبررت زيدا . وصلة ( الذين ) الجملة من ( لو ) وجوابها . قال ابن عطية : تقديره : لو تركوا لخانوا . ويجوز حذف اللام في جواب ( لو ) ، تقول : لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، انتهى كلامه . وقال الزمخشري : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا وذلك عند احتضارهم ، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل :


لقد زاد الحياة إلي حبا بناتي إنهن من الضعاف     أحاذر أن يرثن البؤس بعدي
وأن يشربن رنقا بعد صاف

انتهى كلامه . وقال غيرهما : لو تركوا ، ( لو ) يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، و ( خافوا ) جواب ( لو ) . انتهى .

فظاهر هذه النصوص أن ( لو ) هنا التي تكون تعليقا في الماضي ، وهي التي يعبر عنها سيبويه بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره . ويعبر غيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره . وذهب صاحب التسهيل : إلى أن ( لو ) هنا شرطية بمعنى ( إن ) فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتقدير : وليخش الذين إن تركوا من خلفهم . قال : ولو وقع بعد ( لو ) هذه مضارع لكان مستقبل المعنى ، كما يكون بعد ( إن ) ، قال الشاعر :


لا يلفك الراجوك إلا مظهرا     خلق الكريم ولو تكون عديما



وكأن قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية ، والأمر مستقبل ، ومتعلق الأمر هو موصول - لم يصلح أن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر . وحسن مكان ( لو ) لفظ ( إن ) فقال : [ ص: 178 ] إنها تعليق في المستقبل ، وأنها بمعنى ( إن ) . وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم ، فلذلك قال : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا ، فلم تدخل ( لو ) على مستقبل ، بل أدخلت على ( شارفوا ) الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر . وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى ، واقعة بالفعل . إذ معنى : لو تركوا من خلفهم ، أي ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التأويل في ( لو ) أن تكون بمعنى ( إن ) ، إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل . أما إذا كان ماضيا على تقدير يصح أن يقع صلة ، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل ، نحو قولك : ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه . وأصل ( لو ) أن تكون تعليقا في الماضي ، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى : إن ، إلا إذ دل على ذلك قرينة كالبيت المتقدم . لأن جواب ( لو ) فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه ، وهو قوله : لا يلفك . وكذلك قوله :


قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم     دون النساء ولو باتت بأطهار



لدخول ما بعدها في حيز ( إذا ) ، و ( إذا ) للمستقبل . ولو قال قائل : لو قام زيد قام عمر ، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل . و ( من خلفهم ) متعلق بـ ( تركوا ) . وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ( ذرية ) .

وقرأ الجمهور ( ضعافا ) جمع ضعيف ، كظريف وظراف . وأمال فتحة العين حمزة ، وجمعه على فعال قياس . وقرأ ابن محيصن : ضعفا بضمتين ، وتنوين الفاء . وقرأت عائشة ، و السلمي ، والزهري ، وأبو حيوة ، وابن محيصن أيضا : ضعفاء بضم الضاد والمد ، كظريف وظرفاء ، وهو أيضا قياس . وقرئ : ( ضعافى ) و ( ضعافى ) بالإمالة ، نحو سكارى وسكارى . وأمال حمزة ( خافوا ) للكسرة التي تعرض له في نحو : خفت . وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولا بالخشية التي محلها القلب وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم ، وهي الحاملة على التقوى ، ثم أمر بالتقوى ثانيا وهي متسببة عن الخشية ، إذ هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه . ثم أمر بالقول السديد ، وهو ما يظهر من الفعل الناشئ عن التقوى الناشئة عن الخشية . ولا يراد تخصيص القول السديد فقط ، بل المعنى على الفعل والقول السديدين . وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك على الإنسان ، كأنه قيل : أقل ما يسلك هو القول السديد . قال مجاهد : يقولون للذين يفرقون المال زد فلانا وأعط فلانا . وقيل : هو الأمر بإخراج الثلث فقط . وقيل : هو تلقين المحتضر الشهادة . وقيل : الصدق في الشهادة . وقيل : الموافق للحق . وقيل : للعدل . وقيل : للقصد . وكلها متقاربة .

والسداد : الاستواء في القول والفعل . وأصل السد إزالة الاختلال . والسديد يقال في معنى الفاعل ، وفي معنى المفعول . ورجل سديد متردد بين المعنيين ، فإنه يسدد من قبل متبوعه ، ويسدد لتابعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية