الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) قال ابن مسعود والحسن والضحاك والسدي وغيرهم : نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته . وقال ابن جبير : في المحجورين . وقال مجاهد : في النساء خاصة . وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما : نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائنا من كان . ويضعف قول مجاهد أنها في النساء - كونها جمع سفيهة ، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات ، قاله ابن عطية . ونقلوا أن العرب جمعت سفيهة على سفهاء ، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث ، فلا يضعف قول مجاهد . وإن كان جمع فعيلة الصفة - للمؤنث نادرا لكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصا . وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد ، لأنه يطرد فيه فعال كظريفة وظراف ، وكريمة وكرام ، ويوافق في ذلك المذكر . وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة ، نحو : قتيلة ، ليس بجيد ، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل .

وقيل : عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهون في استعمال ما تناله أيديهم ، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء . والسفهاء : هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي ، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها . والظاهر في قوله : أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله : ولا تؤتوا . قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن والسدي : نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره ، وإذا وقع النهي عن هذا فأن لا يؤتى شيئا من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي ، وعلى هذا القول : وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال ؛ قيل : يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة ، وهو قول عامة أهل العلم . وأوصى عمر إلى حفصة . وروي عن عطاء : أنها لا تكون وصيا . قال : ولو فعل حولت إلى رجل من قومه .

قيل : ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع ، وروي عن عمر أنه قال : ( من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا ) - والكفار . وكره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالبيع والشراء ، أو يدفع إليه يضاربه . وقال ابن جبير : يريد أموال السفهاء ، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطا بالأموال ، أي : هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم . ومن مثل هذا : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) وما جرى مجراه . وهذا القول ذكره الزمخشري أولا قال : والخطاب للأولياء ، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معائشهم . كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم ، ( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) ، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله : ( وارزقوهم فيها واكسوهم ) .

وقرأ الحسن والنخعي : ( اللاتي ) . وقرأ الجمهور : التي . قال ابن عطية : والأموال جمع لا يعقل ، فالأصوب فيه قراءة الجماعة . انتهى . واللاتي جمع في المعنى للتي ، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفرده بالتي ، والمذكر لا يوصف بالتي ، سواء كان عاقلا أو غير عاقل ، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي ، الذي هو اللاتي . والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث . فإذا كان لنا جمع لا يعقل فيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة ، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات ، فتقول : عندي جذوع منكسرة ، كما تقول : امرأة طويلة ، وجذوع منكسرات . كما تقول : نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل . والأولى في الكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة ، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة . فإذا كان جمع قلة ، فالأولى [ ص: 170 ] عكس هذا الحكم : فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة ، وهذا فيما وجد له الجمعان : جمع القلة ، وجمع الكثرة . أما ما لا يجمع إلا على أحدهما ، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة . وإذا تقرر هذا نتج أن التي أولى من اللاتي ؛ لأنه تابع لجمع لا يعقل . ولم يجمع مال على غيره ، ولا يراد به القلة لجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث ، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب . وقال الفراء : تقول العرب في النساء : اللاتي ، أكثر مما تقول التي . وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي ، وكلاهما في كليهما جائز . وقرئ شاذا : ( اللواتي ) ، وهو أيضا في المعنى جمع التي . ومعنى ( قياما ) : تقومون بها وتنتعشون بها ، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم . قال الضحاك : جعلها الله قياما لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر ، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار ، وكان السلف تقول : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس . وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعة يقلبها : لولاها لتمندل ، أي : بنو العباس . وكانوا يقولون : اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يؤكل دينه . وقرأ نافع وابن عامر : ( قيما ) ، وجمهور السبعة : قياما ، والأعمش بن عمر : ( قواما ) بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر : ( قواما ) بفتحها . ورويت عن أبي عمرو . وقرئ شاذا : ( قوما ) . فأما ( قيما ) فمقدر كالقيام والقيام ، قاله الكسائي والفراء والأخفش ، وليس مقصورا من قيام . وقيل : هو مقصور منه . قالوا : وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام ، أو جمع قيمة كديم جمع ديمة ، قاله البصريون غير الأخفش . ورده أبو علي : بأنه وصف به في قوله : ( دينا قيما ) والقيم لا يوصف به ، وإنما هو مصدر بمعنى القيام الذي يراد به الثبات والدوام . ورد هذا بأنه لو كان مصدرا لما أعل كما لم يعلوا حولا وعوضا ؛ لأنه على غير مثال الفعل ، لا سيما الثلاثية المجردة . وأجيب : بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل ، لأنه مصدر بمعنى القيام ، فكما أعل القيام أعل هو . وحكى الأخفش : قيما وقوما ، قال : والقياس تصحيح الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشذوذ كقولهم : تيرة ، وقول بني ضبة : طيال في جمع طويل ، وقول الجميع : جياد في جمع جواد . وإذا أعلوا ديما لاعتلال ديمة ، فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى . ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش ، ومقامة ومقاوم ، ولم يصححوا مصدرا أعلوا فعله . وقيل : يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة ، وإن كان لا يحتمله ( دينا قيما ) . وأما قيام فظاهر فيه المصدر ، وأما قوام فقيل : مصدر قاوم . وقيل : هو اسم غير مصدر ، وهو ما يقام به كقولك : هو ملاك الأمر لما يملك به . وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم . وقال : القوام : امتداد القامة ، وجوزه الكسائي . وقال : هو في معنى القوام ، يعني أنه مصدر . وقيل : اسم للمصدر . وقيل : القوام القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم .

( وارزقوهم فيها واكسوهم ) أي : أطعموهم واجعلوا لهم نصيبا . قيل : معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار . قال ابن عباس : لا تعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، وأمسك ذلك وأصلحه ، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومئونتهم . وقيل : في المحجورين ، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبين بقوله : وآتوا من هم ؟ والمعنى على هذا القول : اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق . قيل : وقال ( فيها ) : ولم يقل منها تنبيها على ما قاله عليه السلام : ( ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة ) والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة . وقيل : ( في ) بمعنى ( من ) ، أي : منها .

( وقولوا لهم قولا معروفا ) المعروف : ما تألفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه [ ص: 171 ] الشرع ، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين ، فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم ، قاله ابن عباس ، و مجاهد ، و عطاء ، ومقاتل ، وابن جريج . وقال عطاء : إذا ربحت أعطيتك ، وإذا غنمت في غزاتي ، جعلت لك حظا . وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب ، فتدعو لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم وشبهه ، قاله ابن زيد . وقال الضحاك : الرد الجميل . ولما أمر الله تعالى أولا بإيتاء اليتامى بقوله : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) وأمر ثانيا بإيتاء أموال النساء بقوله : ( وآتوا النساء صدقاتهن ) وكان ذلك عاما من غير تخصيص ، بين في هذه الآية أن ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه ، وخص ذلك العموم ، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية