الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) [ ص: 508 ] الخطاب للرسول ، صلى الله عليه وسلم ، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية ، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية . ومعنى يسارعون فيهم أي : في موالاتهم ويرغبون فيها . وتقدم الكلام في المرض في أول البقرة .

وقرأ إبراهيم بن وثاب : فيرى بالياء من تحت ، والفاعل ضمير يعود على الله أو الرأي . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى ; والمعنى : أن يسارعوا ، فحذفت أن إيجازا . انتهى . وهذا ضعيف لأن حذف إن من نحو هذا لا ينقاس . وقرأ قتادة والأعمش : يسرعون بغير ألف من أسرع ، وفترى إن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالا ، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أبي ، وقاله معه منافقون كثيرون . قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا . وقيل : الدائرة من جدب وقحط . ولا يميروننا ولا يقرضوننا . وقيل : دائرة تحوج إلى يهود إلى معونتهم .

( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ) هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة . قال قتادة : عنى به القضاء في هذه النوازل ، والفتاح : القاضي . وقال السدي : يعني به فتح مكة . قال ابن عطية : وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وعلو كلمته فيستغنى عن اليهود . وقيل : فتح بلاد المشركين . وقيل : فتح قرى اليهود ، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما . وقيل : الفتح الفرج ، قاله ابن قتيبة . وقيل في قوله تعالى : ( أو أمر من عنده ) هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم ، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب ، وقتل قريظة وسبي ذراريهم ، قاله : ابن السائب ومقاتل . وقيل : إذلالهم حتى يعطوا الجزية . وقيل : الخصب والرخا ، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج : إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر . وقال ابن عطية : ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم ، فوعد الله تعالى إما بفتح يقتضي تلك الأعمال ، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع ، هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبب . انتهى .

( فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ) أي : يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أن أمر النبي لا يتم ، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده . وقيل : موالاتهم . وقرأ ابن الزبير : فتصبح الفساق ; جعل الفساق مكان الضمير . قال ابن عطية : وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر ، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره . انتهى . وتقدم لنا نحو من هذا الكلام ، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح ، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله : فيصبحوا [ ص: 509 ] معطوف على قوله : ( أن يأتي ) وهو الظاهر ، ومجوز ذلك هو الفاء ، لأن فيها معنى التسبب ، فصار نظير : الذي يطير فيغضب زيد الذباب ، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح ، لأنه كان يكون معطوفا على أن يأتي خبر لعسى ، وهو خبر عن الله تعالى ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط ، ولا رابط هنا ، فلا يجوز العطف . لكن الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله ، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو ، أو خبر نحو زيد يقوم فيقعد بشر . وجوز أن لا يكون معطوفا على أن يأتي ، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني ، إذ عسى تمن وترج في حق البشر ، وهذا فيه نظر .

التالي السابق


الخدمات العلمية