الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ ص: 112 ] قيل : هم قتلى أحد ، وقيل : شهداء بئر معونة . وقيل : شهداء بدر . وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل من ثمارها : من يبلغ عنا إخواننا أنا في الجنة نرزق ، لا تزهدوا في الجهاد . فقال الله : أنا أبلغ عنكم ، فنزلت . أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء : إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ، فنزلت .

وقرأ الجمهور : " ولا تحسبن " بالتاء ، أي ولا تحسبن أيها السامع . وقال الزمخشري : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد . وقرأ حميد بن قيس ، وهشام بخلاف عنه بالياء ، أي : ولا يحسبن هو ، أي : حاسب واحد . قال ابن عطية : وأرى هذه القراءة بضم الياء ، فالمعنى : ولا يحسبن الناس . انتهى .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلا ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا . ( فإن قلت ) : كيف جاز حذف المفعول الأول ؟ ( قلت ) : هو في الأصل مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : أحياء . والمعنى : هم أحياء ؛ لدلالة الكلام عليها . انتهى كلامه . وما ذهب إليه من أن التقدير : ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ، لا يجوز ؛ لأن فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن لا تتعدى ، وهي : باب رب بلا خلاف ، نحو : ربه رجلا أكرمته . وباب نعم وبئس في نحو : نعم رجلا زيد ، على مذهب البصريين . وباب التنازع ، على مذهب سيبويه ، في نحو : ضرباني وضربت الزيدين ، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو : هو زيد منطلق . وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو : مررت به زيد ، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبرا للضمير ، وجعل منه قوله تعالى : ( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ) التقدير عنده : ما الحياة إلا حياتنا الدنيا . وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحدا من هذه الأماكن المذكورة . وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه : يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصارا ، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى ، لكنه عندهم قليل جدا . قال أبو علي الفارسي : حذفه عزيز جدا ، كما أن حذف خبر كان كذلك ، وإن اختلفت جهتا القبح . انتهى قول أبي علي . وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصارا ، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو . وما كان بهذه المثابة ممنوعا عند بعضهم عزيزا حذفه عند الجمهور ، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى . فتأويل من تأول الفاعل مضمرا يفسره المعنى ، أي : لا يحسبن هو ، أي أحد ، أو حاسب أولى . وتتفق القراءتان في كون الفاعل ضميرا ، وإن اختلفت بالخطاب والغيبة .

وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء [ ص: 113 ] وحياتهم في قوله : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ) فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ الحسن وابن عامر " قتلوا " بالتشديد . وروي عن عاصم : " قاتلوا " . وقرأ الجمهور : " قتلوا " مخففا . وقرأ الجمهور : " بل أحياء " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : بل هم أحياء . وقرأ ابن أبي عبلة : أحياء بالنصب . قال الزمخشري : على معنى بل احسبهم أحياء . انتهى . وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج ، قال الزجاج : ويجوز النصب على معنى : بل احسبهم أحياء . ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال : لا يجوز ذلك ؛ لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة . فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلا غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم ، وذلك ضعيف ؛ إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر . انتهى كلام أبي علي . وقوله : لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه : أن المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة ، لأنها لا تكون لليقين . وهذا الذي ذكره هو الأكثر ، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن ، لكنه في ظن كثير ، وفي حسب قليل . ومن ذلك في حسب قول الشاعر :


حسبت التقى والحمد خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا



وقول الآخر :


شهدت وفاتوني وكنت حسبتني     فقيرا إلى أن يشهدوا وتغيبي



فلو قدر بعد : بل احسبهم بمعنى اعلمهم ، لصح ؛ لدلالة المعنى عليه ، لا لدلالة لفظ " ولا تحسبن " ، لاختلاف مدلوليهما . وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر . وقوله : ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة - غير مسلم ، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ . وقوله : أو اجعلهم ، هذا لا يصح ألبتة ، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيرهم ، أو سمهم ، أو ألقهم . وقوله : وذلك ضعيف أي النصب ، وقوله : إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر . إن عنى من حيث اللفظ فصحيح ، وإن عنى من حيث المعنى فغير مسلم له ، بل المعنى يسوغ النصب على معنى أعتقدهم ، وهذا على تسليم أن حسب لا يذهب بها مذهب العلم .

ومعنى عند ربهم : بالمكانة والزلفى ، لا بالمكان . قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ؛ لأن عند تقتضي غاية القرب ؛ ولذلك يصغر . قاله سيبويه . انتهى . ويحتمل عند ربهم أن يكون خبرا ثانيا ، وصفة ، وحالا . وكذلك يرزقون : يجوز أن يكون خبرا ثالثا ، وأن يكون صفة ثانية . وقدم صفة الظرف على صفة الجملة ؛ لأن الأفصح هذا وهو : أن يقدم الظرف أو المجرور على الجملة إذا كانا وصفين ؛ ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق . وأن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف ، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف .

قال ابن عطية : أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة . ولا محالة أنهم ماتوا ، وأن أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين . وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم . فقوله : " بل أحياء " مقدمة لقوله : " يرزقون " ؛ إذ لا يرزق إلا حي . وهذا كما يقول لمن ذم رجلا : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل . انتهى ما قاله ابن عطية . ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق ، لكون الحياة مشتركا فيها الشهيد والمؤمنون ؛ لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدما على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية ، فاستفيد أولا حياة أرواح الشهداء ، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح المؤمنين . وأيضا ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو كون الشهداء أمواتا . والبعد [ ص: 114 ] عن أن يراد بقوله : يرزقون ، ما يحتمله المضارع من الاستقبال ، فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه ، إذ الأصل في الإخبار أن يكون من أسندت إليه متصفا بذلك في الحال ، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى ، فيصار إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية