الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وتؤمنون بالكتاب كله ) الكتاب : اسم جنس ، أي بالكتب المنزلة قاله ابن عباس . والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة ، وثم جملة محذوفة تقديرها : ولا تؤمنون به كله ، بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض . يدل عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم . والواو في " وتؤمنون " للعطف على " تحبونهم " ، فلها من الإعراب ما لها . وقال الزمخشري : والواو في " وتؤمنون " للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم ، والحال : إنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحوه . " فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " . انتهى كلامه وهو حسن . إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في " وتؤمنون " للحال ، وأنها منتصبة من [ ص: 41 ] لا يحبونكم . والمضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال ، تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز : ويضحك . فأما قولهم : قمت وأصك عينه ، ففي غاية الشذوذ . وقد أول على إضمار مبتدأ ، أي قمت وأنا أصك عينه ، فتصير الجملة اسمية . ويحتمل هذا التأويل هنا ، أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف . قال ابن عطية : وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود ، لا منافقي العرب . ويعترضها : أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي . فلم يبق إلا أن قولهم : آمنا ، معناه صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم . أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم لا نضمر لكم إلا المودة ؛ ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة . وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من اليهود كان يذهب إليه . ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم : آمنا عض الأنامل من الغيظ ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة . وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الأباضية . وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة . انتهى كلامه .

وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن إلا ما روي من أمر زيد فيه نظر ، فإنه قد روي أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ، ذكره البيهقي وغيره . ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك ؛ إذ وجد ذلك في جنسهم . وكثيرا ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى : ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) .

( وإذا لقوكم قالوا آمنا ) هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث ، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان ، ولكنهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون .

( وإذا خلوا ) أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم . والمعنى : خلت مجالسهم منكم ، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز .

( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) وظاهره فعل ذلك ، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون . ومنه قول أبي طالب :


وقد صالحوا قوما علينا أشحة يعضون عضا خلفنا بالأباهم



وقال الآخر :


إذا رأوني أطال الله غيظهم     عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم



وقال الآخر :


وقد شهدت قيس فما كان نصرها     قتيبة إلا عضها بالأباهم



وقال الحرث بن ظالم المري :


وأقبل أقواما لئاما أذلة     يعضون من غيظ رءوس الأباهم



ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام . وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة . كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت . وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه . ويحتمل أن لا يكون ثم عض أنامل ، ويكون ذلك من مجاز التمثيل ، عبر بذلك عن شدة الغيظ والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم . ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان [ ص: 42 ] بهذه الأوصاف من بغض المؤمنين ، والكفر بالقرآن ، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه - جدير بأن لا يتخذ صديقا .

( قل موتوا بغيظكم ) ظاهره أنه أمر بأن يقول لهم ذلك . وهي صيغة أمر ، ومعناها الدعاء ، أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم لما يئس من إيمانهم ، هذا قول الطبري . وكثير من المفسرين قالوا : فله أن يدعو مواجهة . وقيل : أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا . فعلى هذا زال معنى الدعاء ، وبقي معنى التقريع ، قاله ابن عطية . وقيل : صورته أمر ، ومعناه الخبر ، والباء للحال ، أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه . وقال الزمخشري : دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار . انتهى كلامه .

وليس ما فسر به ظاهر قوله : قل موتوا بغيظكم ، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم : مت بدائك ، أي أبقى الله داءك حتى تموت به . لكن في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ ، ولا يدل عليه لفظ القرآن . قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ؛ لأنه لو كان أمرا لماتوا من فورهم كما جاء : " فقال لهم الله موتوا " . وليس بدعاء ؛ لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ؛ فإن دعوته لا ترد . وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر ؛ لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به ، يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع ، كقوله : " اعملوا ما شئتم " ، " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " . قيل : ويجوز أن لا يكون ثم قول ، وأن يكون أمرا بطيب النفس ، وقوة الرجاء ، والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك .

( إن الله عليم بذات الصدور ) قيل : يجوز أن يكون من جملة المقول ، والمعنى : أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه . ويجوز أن لا تدخل تحت القول ، ومعناه : قل لهم ذلك ، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم ، لم يظهروه بألسنتهم . والظاهر الأول ، أورد ذلك على أنه وعيد مواجهون به .

والذات لفظ مشترك ، ومعناه هنا أنه تأنيث " ذي " بمعنى صاحب . فأصله هنا : عليم بالمضمرات ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه . ومعنى صاحبة الصدور : الملازمة له التي لا تنفك عنه ، كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه : أصحاب الجنة ، أصحاب النار . واختلفوا في الوقف على " ذات " . فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء ؛ مراعاة لرسم المصحف . وقال الكسائي والجرمي : بالهاء ؛ لأنها تاء تأنيث .

التالي السابق


الخدمات العلمية