الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 120 ] ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) ما : هي الكافة لإن عن العمل . وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنها إذا لم تكن موصولة أفادت مع " أن " الحصر . وذلكم إشارة إلى الركب المثبط . وقيل : المراد بالشيطان نعيم بن مسعود ، أو أبو سفيان . فعلى هذه الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان . وقيل : ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان ، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردد . فعلى هذا تكون الإشارة إلى معان ، ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره : إنما ذلكم فعل الشيطان . وقدره الزمخشري : قول الشيطان ، أي قول إبليس . فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم . وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو " ذلكم " بالشيطان هو مجاز ؛ لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان ، ولا ما جرى من قول فقط أو من قول . وما انضم إليه مما صدر من العدو من تخويف ، وما صدر من جزع - ليس نفس قول الشيطان ولا فعله ، وإنما نسب إليه وأضيف ؛ لأنه ناشئ عن وسوسته وإغوائه وإلقائه .

والتشديد في " يخوف " للنقل ، كان قبله يتعدى لواحد ، فلما ضعف صار يتعدى لاثنين . وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها ، وأحدهما اقتصار أو اختصار ، أو هنا تعدى إلى واحد ، والآخر محذوف . فيجوز أن يكون الأول ، ويكون التقدير : يخوفكم أولياءه ، أي شر أوليائه في هذا الوجه ؛ لأن الذوات لا تخاف ، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنون ، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي : يخوف أولياءه شر الكفار ، ويكون " أولياءه " في هذا الوجه هم المنافقون ، ومن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي أنه لا يتعدى تخويفه المنافقين ، ولا يصل إليكم تخويفه . وعلى الوجه الأول يكون أولياءه هم الكفار : أبو سفيان ومن معه . ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس " يخوفكم أولياءه " ، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأول . وقرأ أبي والنخعي : " يخوفكم بأوليائه " ، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في : يقرأن بالسور ، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه ، أي : أولياءه ، كقراءة الجمهور . ويجوز أن تكون الباء للسبب ، ويكون مفعول يخوف الثاني محذوفا أي : يخوفكم الشر بأوليائه ، فيكونون آلة للتخويف . وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير : بأوليائه ، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولا يخوف لدلالة المعنى على الحذف ، والتقدير : يخوفكم الشر بأوليائه ، وهذا بعيد . والأحسن في الإعراب أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، والشيطان خبره . ويخوف جملة حالية ، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوبا على الحال مكانها نحو قوله تعالى : ( فتلك بيوتهم خاوية ) ( وهذا بعلي شيخا ) وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلا أو عطف بيان ، ويكون بخوف خبرا عن ذلكم . وقال الزمخشري : الشيطان [ ص: 121 ] خبر " ذلكم " ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، و " يخوف أولياءه " جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ، ويخوف الخبر . والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان . انتهى كلامه . فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب . وإنما قال : والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان ؛ لأنه لا يكون صفة ، والمراد به إبليس ؛ لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علما بالغلبة ، إذ أصله صفة كالعيوق ، ثم غلب على إبليس ، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه .

وقال ابن عطية : وذلكم في الإعراب ابتداء ، والشيطان مبتدأ آخر ، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأول . وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم ؛ لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة . انتهى . وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز إن كان الضمير في " أولياءه " عائدا على الشيطان ؛ لأن الجملة الواقعة خبرا عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله : ذلكم ، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم : هجيرى أبي بكر لا إله إلا الله ، وإن كان عائدا على ذلكم ، ويكون ذلك عن الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد يضرب غلامها . والمعنى : إذ ذاك ، إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه ، أي : أولياء الركب ، أو أبي سفيان . والضمير المنصوب في " تخافوهم " ، الظاهر عوده على : أولياءه ، هذا إذا كان المراد بقوله : " أولياءه " كفار قريش ، وغيرهم من أولياء الشيطان . وإن كان المراد به المنافقين ، فيكون عائدا على الناس من قوله : ( إن الناس قد جمعوا لكم ) قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان ، وأمر بخوفه تعالى ، وعلق ذلك على الإيمان . أي إن وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله ، كقوله : ( ولا يخشون أحدا إلا الله ) وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان ، وإن كان واقعا ، إذ هم متصفون بالإيمان ، كما تقول : إن كنت رجلا فافعل كذا . وأثبت أبو عمرو ياء " وخافون " وهي ضمير المفعول ، والأصل الإثبات . ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون ، فتذهب الدلالة على المحذوف .

التالي السابق


الخدمات العلمية