الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ) قال ابن عباس : أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عمن يؤمن به من الرسل ؟ فقال : أؤمن بالله : ( وما أنزل إلينا ) إلى قوله : ( ونحن له مسلمون ) فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ، ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دينكم ، فنزلت ; والمعنى : هل تعيبون علينا ، أو تنكرون ، وتعدون ذنبا أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب ، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها ؟ وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيبا ونظيره قول الشاعر :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب



والخطاب قيل : للرسول ، وهو بمعنى ما النافية . وقرأ الجمهور : تنقمون ; بكسر القاف ، والماضي نقم ، بفتحها ، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح . ونقم ، بالكسر ، ينقم ، بالفتح ، لغة حكاها الكسائي وغيره . وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم ، وفسر تنقمون : بتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة . وإلا أن آمنا ; استثناء فرغ له الفاعل . وقرأ الجمهور : أنزل مبنيا للفاعل ، وذلك في اللفظين ، وقرأهما أبو نهيك : مبنيين للفاعل ، وقرأ نعيم بن ميسرة : وإن أكثركم فاسقون ، بكسر الهمزة ، وهو واضح المعنى ، أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين ، وتضمنت الإخبار بفسق أكثرهم وتمردهم . وقرأ الجمهور : بفتح همزة أن ، وخرج ذلك على أنها في موضع رفع ، وفي موضع نصب ، وفي موضع جر . فالرفع : على الابتداء . وقدر الزمخشري الخبر مؤخرا محذوفا ; أي : وفسق [ ص: 517 ] أكثركم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق ، وأنكم على الباطل ، إلا أن حب الرياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف . ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدما ; أي : ومعلوم فسق أكثركم ، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط . والنصب من وجوه : أحدها : أن يكون معطوفا على أن آمنا ; أي : ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم ، فيدخل الفسق فيما نقموه ، وهذا قول أكثر المتأولين . ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم ، فكيف ينقمونه ؟ لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من أنا مؤمنون وأكثركم فاسقون ، وإن كانوا لا يسلمون أن أكثرهم فاسقون ، كما تقول : ما تنقم مني إلا أني صدقت وأنت كذبت ، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض ، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض ، وكأنه قيل : ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإسلام وأنتم خارجون . والوجه الثاني : أن يكون معطوفا على أن آمنا ، إلا أنه على حذف مضاف ، تقديره : واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون ، وهذا معنى واضح . ويكون ذلك داخلا في ما تنقمون حقيقة . الثالث : أن تكون الواو واو مع ، فتكون في موضع نصب مفعولا معه ، التقدير : وفسق أكثرهم ; أي : تنقمون ذلك مع فسق أكثركم ; والمعنى : لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركم ، كما تقول : تسيء إلي مع أني أحسنت إليك . الرابع : أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدر يدل عليه ، هل تنقمون ; تقديره : ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون . والجر على أنه معطوف على قوله : بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم فاسقون ، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة ; التقدير : ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم . ويدل عليه تفسير الحسن بفسقكم : نقمتم ذلك علينا . فهذه سبعة وجوه في موضع أن وصلتها ، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح : وذلك أن نقم أصلها أن تتعدى بعلى ، تقول : نقمت على الرجل أنقم ، ثم تبنى منها افتعل فتعدى إذ ذاك بمن ، وتضمن معنى الإصابة بالمكروه .

قال تعالى : ( ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ) ومناسبة التضمين فيها أن من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه ، وإن قدر ، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل ، لقولهم : وقد رأوه ; ولذلك عديت بمن دون التي أصلها أن يعدى بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا أو وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا ; أي : لأن آمنا ، فيكون أن آمنا ، مفعولا من أجله ; ويكون وإن أكثركم فاسقون ; معطوفا على هذه العلة ، وهذا ، والله أعلم ، سبب تعديته بمن دون على ، وخص أكثركم بالفسق لأن فيهم من هدي إلى الإسلام ، أو لأن فساقهم وهم المبالغون في الخروج عن الطاعة هم الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون تقربا إلى الملوك ، وطلبا للجاه والرياسة ، فهم فساق في دينهم لا عدول ، وقد يكون الكافر عدلا في دينه ، ومعلوم أن كلهم لم يكونوا عدولا في دينهم ، فلذلك حكم على أكثرهم بالفسق .

التالي السابق


الخدمات العلمية