الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) : هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين ، قالوا : وعدنا الله النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا ، فنزلت إعلاما أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولا ، وكان الإمداد مشروطا بالصبر والتقوى . واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات ، وإن كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على من فعل ، وستر إذ لم يعين ، وزجر لمن لم يفعل أن يفعل .

وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولا ، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظيم في ذلك اليوم ، وهو مذكور في السير . وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس . والمسلمون في سبعمائة رجل . وتعدت " صدق " هنا إلى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول : صدقت زيدا الحديث ، وصدقت زيدا في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين . ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر ، واختار . والعامل في " إذ " : " صدقكم " .

ومعنى تحسونهم : تقتلونهم . وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلا . وقرأ عبيد بن عمير " تحسونهم " رباعيا من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل . وتمني القتل بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف .

والتنازع : وهو التجاذب في الأمر ، وهذا التنازع صدر من الرماة ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : " اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " . ووعدهم [ ص: 79 ] بالنصر إن انتهوا إلى أمره . فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا ؟ الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين . وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن محمدا قد قتل .

والعصيان : هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلبا للنهب والغنيمة ، وكان خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على من بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر المسلمين ، فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلا .

" من بعد ما أراكم ما تحبون " : وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم . قال الزبير بن العوام : لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ؛ إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا .

و " إذا " في قوله : " إذا فشلتم " ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ، ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت . وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء . والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم على زيادة الواو ، قاله الفراء وغيره ، وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف . والصحيح : أنه محذوف ؛ لدلالة المعنى عليه ، فقدره ابن عطية : انهزمتم . والزمخشري : منعكم نصره ، وغيرهما : امتحنتم . والتقادير متقاربة . وحذف جواب الشرط لفهم المعنى جائز ؛ لقوله تعالى : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) تقديره : فافعل . ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين . ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير : ( فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع وعصى ؛ لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية .

وقال أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النبي بأن الإخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها ، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى . ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) قال ابن عباس وجمهور المفسرين : الدنيا الغنيمة . وقال ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعا ، وكان الرماة خمسين ، ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر . وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين ، فقاتل حتى قتل ، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه . وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف .

التالي السابق


الخدمات العلمية