الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) : لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو ، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح ، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء ، وحصر قولهم في ذلك القول ، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى ، ولا قول إلا هذا القول ، لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب واختلاف الأقوال ، فمن قائل : نأخذ أمانا من أبي سفيان ، ومن قائل : نرجع إلى ديننا ، ومن قائل ما قال حين فر . وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربييهم ، لم يهنوا ، بل صبروا وقالوا هذا القول ، وهم ربيون أحبار ؛ هضما لأنفسهم ، وإشعارا أن ما نزل من بلايا الدنيا إنما هو بذنوب من البشر ، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى .

وقرأ الجمهور " قولهم " بالنصب على أنه خبر كان و " أن قالوا " في موضع الاسم ، جعلوا ما كان أعرف الاسم ؛ لأن إن وصلتها تتنزل منزلة الضمير . و " قولهم " : مضاف للضمير ، يتنزل منزلة العلم . وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع " قولهم " ، جعلوه اسم كان ، والخبر " أن قالوا " ، والوجهان فصيحان ، وإن كان الأول أكثر . وقد قرئ : " ثم لم تكن فتنتهم " بالوجهين في السبعة ، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة ؛ ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن زكاة وطهارة ، فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حريا بالإجابة ، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التأكيد .

وقيل : الذنوب ما دون الكبائر ، والإسراف الكبائر . وقال أبو عبيدة : الذنوب هي الخطايا ، وإسرافنا أي تفريطنا . وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة .

والأقدام هنا قيل : حقيقة ، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطئ الحرب ولقاء العدو كي لا تزل . وقيل : المعنى : شجع قلوبنا على لقاء العدو . وقيل : ثبت قلوبنا على دينك . والأحسن حمله على الحقيقة ؛ لأنه من مظانها . وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين . وكثيرا ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله : " أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا " ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) وقيل : اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة ، وإسرافنا في الهزيمة ، وثبت أقدامنا بالمصابرة ، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة .

قال ابن فورك : في هذا الدعاء رد على القدرية ؛ لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعى فيما لم يفعله ، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو ، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين . وقد جاء في القرآن أدعية [ ص: 76 ] أعقب الله بالإجابة فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية