الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ) : الأمنة : الأمن ، قاله ابن قتيبة وغيره . وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه . وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن . أو جمع آمن كـ بار وبررة ، ويأتي إعرابه . وقرأ النخعي وابن محيصن : " أمنة " بسكون الميم ، بمعنى الأمن . ومعنى الآية : امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون ، وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام . ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة ، والزبير ، وابن مسعود . واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس .

فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي وكان من المتحيزين إليه : " اذهب فانظر إلى القوم ، فإن كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة ، فاتقوا الله واصبروا " ووطنهم على القتال ، فمضى علي ، ثم رجع فأخبر أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالا ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألقى الله تعالى عليهم النعاس . وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية . وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته . وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في [ ص: 86 ] المصاف . وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك . قال تعالى : ( فأثابكم غما بغم ) . والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم . والجمع بين هذين القولين أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرحيل إلى مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون . والفاعل بـ " أنزل " ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على " فأثابكم " . و " عليكم " يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز ؛ لأن حقيقته في الأجرام . وأعربوا " أمنة " مفعولا بأنزل ، ونعاسا بدل منه ، وهو بدل اشتمال ؛ لأن كلا منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك . أو عطف بيان ، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين ؛ لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف ، أو مفعول من أجله وهو ضعيف ؛ لاختلال أحد الشروط وهو اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو الله تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين . وقيل : نعاسا هو مفعول " أنزل " ، وأمنة حال منه ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال . التقدير : نعاسا ذا أمنة ؛ لأن النعاس ليس هو الأمن . أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة . أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة ، قاله الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاسا مفعولا من أجله .

( يغشى طائفة منكم ) : هم المؤمنون . ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ؛ لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن .

وقرأ حمزة والكسائي : " تغشى " بالتاء حملا على لفظ أمنة ، هكذا قالوا . وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ؛ لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت . فمن أعرب نعاسا بدلا أو عطف بيان لا يتم له ذلك ؛ لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولا من أجله ففيه أيضا الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة . وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل . فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم - جاز ذلك . وقال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه . انتهى .

لما أعرب نعاسا بدلا من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه . فإذا قلت : إن هندا حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب . وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله :


إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب



وبقول الآخر :


وكأنه لهق السراة كأنه     ما حاجبيه معين بسواد



فقال : تركت ، ولم يقل تركا . وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه . و " ما " زائدة بين المبدل منه والبدل . ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبرا عن حاجبيه ؛ لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد . كما قال :

[ ص: 87 ]

لمن زحلوقة زل     بها العينان تنهل



وقال :


وكأن في العينين حب قرنفل     أو سنبلا كحلت به فانهلت



فقال : تنهل ، وكحلت به ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به ، وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين إخبار المثنى ، قال :

إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى بصحراء فلج ظلتا تكفان

فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف . وقرأ الباقون : " يغشى " بالياء ، حمله على لفظ النعاس .

التالي السابق


الخدمات العلمية