الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ) استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم - وهو ذو العقل ، المركب فيه الفكر والرؤية والتدبير - من طائر لا يعقل . ومعنى هذا الاستفهام : الإنكار على نفسه ، والنعي ; أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب ، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله : مثل هذا الغراب . وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ، ثم قد ينادى ما لا يعقل على سبيل المجاز ، كقولهم : يا عجبا ويا حسرة ! والمراد بذلك التعجب . كأنه قال : انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة ، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة . وتأويله هذا أوانك فاحضري . وقرأ الجمهور : ياويلتا ، بألف بعد التاء ، وهي بدل من ياء المتكلم ، وأصله ( يا ويلتي ) بالياء ، وهي قراءة الحسن . وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو ألف ويلتى . وقرأ الجمهور : أعجزت ، بفتح [ ص: 467 ] الجيم . وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وفياض ، وطلحة ، وسليمان بكسرها وهي لغة شاذة ، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها . وقرأ الجمهور : فأواري ، بنصب الياء ، عطفا على قوله : أن أكون . كأنه قال : أعجزت أن أواري سوءة أخي . وقال الزمخشري : فأواري ، بالنصب ، على جواب الاستفهام . انتهى . وهذا خطأ فاحش ، لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك ; والمعنى : إن تزرني أكرمك . وقال تعالى : ( فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ) أي : إن يكن لنا شفعاء يشفعوا . ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي - لم يصح ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب . وقرأ طلحة بن مصرف ، والفياض بن غزوان : فأواري ، بسكون الياء ، فالأولى أن يكون على القطع ; أي : فأنا أواري سوءة أخي ، فيكون أواري مرفوعا . وقال الزمخشري : وقرئ بالسكون على : فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف . انتهى . يعني : أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفا ، استثقلها على حرف العلة . وقال ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات . انتهى . ولا ينبغي أن يخرج على النصب ، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفا ; كما أشار إليه الزمخشري ، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات ، لأنه لم يتوال فيه الحركات . وهذا عند النحويين ، أعني النصب ، بحذف الفتحة ، لا يجوز إلا في الضرورة ، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على وجه صحيح ، وقد وجد وهو الاستئناف ; أي : فأنا أواري . وقرأ الزهري : ( سوة أخي ) ، بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى الواو . ولا يجوز قلب الواو ألفا ; لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعول . وقرأ أبو حفص : ( سوة ) بقلب الهمزة واوا ، وأدغم الواو فيه ، كما قالوا في شيء شي ، وفي سيئة : سية ; قال الشاعر :


وإن رأوا سية طاروا بها فرحا مني وما علموا من صالح دفنوا



( فأصبح من النادمين ) قبل هذه جملة محذوفة ، تقديرها : فوارى سوءة أخيه . والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه ، وتبشيره أنه من أصحاب النار . وهذا يدل على أنه كان عاصيا لا كافرا . قيل : ولم ينفعه ندمه ، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة . وقيل : من النادمين على حمله . وقيل : من النادمين : خوف الفضيحة . وقال الزمخشري : من النادمين على قتله لما تعب من حمله ، وتحيره في أمره ، وتبين له من عجزه وتلمذته للغراب ، واسوداد لونه ، وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين . انتهى . وقد اختلف العلماء في قابيل ، أكان كافرا أم عاصيا ؟ وفي الحديث : إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرها ودعوا شرها وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل هابيل من رجفان الأرض سبعة أيام ، وشرب الأرض دمه ، وإيسال الشجر ، وتغير الأطعمة ، وحموضة الفواكه ، ومرارة الماء ، واغبرار الأرض ، وهرب قابيل بأخته ، إقليميا ، إلى عدن من أرض اليمن ، وعبادته النار ، وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان ; والله أعلم بصحة ذلك . قال الزمخشري : وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون . وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر . وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال : من قال إن آدم قال شعرا فهو كذب ، ورمى آدم بما لا يليق بالنبوة ، لأن محمدا والأنبياء ، عليهم السلام ، كلهم في النفي عن الشعر سواء . قال الله تعالى : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) ولكنه كان ينوح عليه ، وهو أول شهيد كان على [ ص: 468 ] وجه الأرض ويصف حزنه عليه نثرا من الكلام شبه المرثية ، فتناسخته القرون وحفظوا كلامه ، فلما وصل إلى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية فنظمه ; فقال :


تغيرت البلاد ومن عليها     فوجه الأرض مغبر قبيح



وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات ، وأن إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات . وقول الزمخشري في الشعر : إنه ملحون ، يسير فيه إلى بيت وهو الثاني :


تغير كل ذي لون وطعم     وقل بشاشة الوجه المليح



يرويه بشاشة الوجه المليح على الإقواء ، ويروى بنصب بشاشة من غير تنوين ورفع الوجه المليح . وليس بلحن ، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة ، ونصبه على التمييز ، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام قد جاء في كلامهم ؛ قرئ : ( أحد الله الصمد ) وروي ، ولا ذاكر الله ، بحذف التنوين .

التالي السابق


الخدمات العلمية