الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الله كان بكل شيء عليما ) أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكل منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره وهو عالم أيضا بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم ( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) لما نهى عن التمني المذكور ، وأمر بسؤال الله من فضله ، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث ، وأن في شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه ، ولم يتعن بطلبه ، فرب ساع لقاعد . و ( كل ) لا تستعمل إلا مضافة ، إما لظاهر ، وإما لمقدر ، واختلفوا في تعيين المقدر هنا ، فقيل : المحذوف إنسان ، وقيل : المحذوف مال . والمولى : لفظ مشترك بين معان كثيرة ، منها : الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا ، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال ، وبذلك فسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم : أن الموالي العصبة والورثة ، فإذا فرعنا على أن المعنى : ولكل إنسان ، احتمل وجوها :

أحدها : أن يكون ل ( كل ) متعلقا بـ ( جعلنا ) ، والضمير في ( ترك ) عائد على ( كل ) المضاف لإنسان ، والتقدير : وجعل لكل إنسان وارثا مما ترك ، فيتعلق ( مما ) بما في معنى موالي من معنى الفعل ، أو بمضمر يفسره المعنى ، التقدير : يرثون مما ترك ، وتكون الجملة قد تمت عند قوله : مما ترك ، ويرتفع ( الوالدان ) على إضمار كأنه قيل : ومن الوارث ؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون وراثا ، والكلام جملتان .

والوجه الثاني : أن يكون التقدير : وجعلنا لكل إنسان موالي ، أي وراثا . ثم أضمر فعل ، أي : يرث الموالي مما ترك الوالدان ، فيكون الفاعل بترك الوالدان . وكأنه لما أبهم في قوله : وجعلنا لكل إنسان موالي - بين أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون ، فأولئك الوراث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم ، ويكون الوالدان والأقربون موروثين . وعلى هذين الوجهين لا يكون في ( جعلنا ) مضمر محذوف ، ويكون مفعول ( جعلناه ) لفظ موالي . والكلام جملتان .

الوجه الثالث : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالي ، أي : وراثا نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم ، فيكون ( جعلنا ) صفة ل ( كل ) ، والضمير من الجملة الواقعة صفة - محذوف ، وهو مفعول ( جعلنا ) . و ( موالي ) منصوب على الحال ، وفاعل ( ترك ) الوالدان . والكلام منعقد من مبتدأ وخبر ، فيتعلق لكل بمحذوف ، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور ، إذ قدر نصيب مما ترك . والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله ، أي حظ من رزق الله . وإذا فرعنا على أن المعنى : ولكل مال ، فقالوا : التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون - جعلنا موالي ، أي : وراثا يلونه ويحرزونه . وعلى هذا التقدير يكون ( مما ترك ) في موضع الصفة ل ( كل ) ، والوالدان والأقربون فاعل بترك ويكونون موروثين ، ولكل متعلق بجعلنا . إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك : بكل رجل مررت تميمي ، وفي جواز ذلك نظر .

واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا . فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، والسدي وغيرهم : هي الحلف . فإن العرب كانت تتوارث بالحلف ، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وعنه أيضا هي : الحلف ، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر ، والوفاء بالكلف ، لا الميراث . وقال ابن عباس أيضا : هي المؤاخاة ، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ . وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم ، وبقي اثنان : النصيب من النصر والمعونة ، ومن المال على جهة الندب في الوصية . وقال ابن المسيب : هي التبني ، والنصيب الذي أمرنا بإتيانه هو الوصية [ ص: 238 ] لا الميراث ، ومعنى ( عاقدت أيمانكم ) في هذا القول : عاقدتهم أيمانكم وماسحتموهم . وقيل : كانوا يتوارثون بالتبني لقوم يموتون قبل الوصية ووجوبها ، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصي له . وقيل : المعاقدة هنا الزواج ، والنكاح يسمى عقدا ، فذكر الوالدين والأقربين ، وذكر معهم الزوج والزوجة . وقيل : المعاقدة هنا الولاء . وقيل : هي حلف أبي بكر الصديق أن لا يورث عبد الرحمن شيئا ، فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه من المال ، قال أبو روق : وفيهما نزلت .

فتلخص من هذه الأقوال في المعاقدة ، أهي الحلف أن لا يورث الحالف ؟ أم المؤاخاة ؟ أم التبني ؟ أم الوصية المشروحة ؟ أم الزواج ؟ أم الموالاة ؟ سبعة أقوال . قال ابن عطية : ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف ، لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان . انتهى .

وكيفية الحلف في الجاهلية : كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وناري نارك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك . فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ، فنسخ الله ذلك . وعلى الأقوال السابقة جاء الخلاف في قوله : ( والذين عاقدت أيمانكم ) أهو منسوخ أم لا ؟ وقد استدل بها على ميراث مولى الموالاة ، وبه قال أبو يوسف ، وأبو حنيفة ، و زفر ، و محمد ، قالوا : من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره ، فميراثه له . وروي نحوه عن يحيى بن سعيد ، و ربيعة ، وابن المسيب ، و الزهري ، و إبراهيم ، و الحسن ، و عمر ، وابن مسعود . وقال مالك ، وابن شبرمة ، و الثوري ، و الأوزاعي ، والشافعي : ميراثه للمسلمين . وقد أطال الكلام في هذه المسألة أبو بكر الرازي ناصرا مذهب أبي حنيفة .

وقرأ الكوفيون : ( عقدت ) بتخفيف القاف من غير ألف ، وشدد القاف حمزة من رواية علي بن كبشة ، والباقون عاقدت بألف ، وجوزوا في إعراب ( الذين ) وجوها . أحدها : أن يكون مبتدأ ، والخبر ( فآتوهم ) . والثاني : أن يكون منصوبا من باب الاشتغال ، نحو : زيدا فاضربه . الثالث : أن يكون مرفوعا معطوفا على ( الوالدان والأقربون ) ، والضمير في ( فآتوهم ) عائد على ( موالي ) إذا كان الوالدان ومن عطف عليه موروثين ، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي ، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوف عليه . الرابع : أن يكون منصوبا معطوفا على موالي ، قاله أبو البقاء ، وقال : أي : وجعلنا الذين عاقدت وراثا ، وكان ذلك ونسخ انتهى . ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدره أن يكون معطوفا على موالي لفساد العطف ، إذ يصير التقدير : ولكل إنسان ، أو : لكل شيء من المال جعلنا وراثا . والذين عاقدت أيمانكم ، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك ، أي : جعلنا وراثا لكل شيء من المال ، أي : لكل إنسان ، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم وراثا . وهو بعد ذلك توجيه متكلف ، ومفعول ( عاقدت ) ضمير محذوف أي : عاقدتهم أيمانكم ، وكذلك في قراءة ( عقدت ) هو محذوف ، تقديره : عقدت حلفهم أو عهدهم أيمانكم . وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان ، سواء أريد بها القسم أم الجارحة - مجاز ، بل فاعل ذلك هو الشخص .

( إن الله كان على كل شيء شهيدا ) لما ذكر تعالى تشريع التوريث ، وأمر بإيتاء النصيب ، أخبر تعالى أنه مطلع على كل شيء فهو المجازي به ، وفي ذلك تهديد للعاصي ، ووعد للمطيع ، وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدة بينكم . والصلة فأوفوا بالعهد .

التالي السابق


الخدمات العلمية