الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) الخطاب للمؤمنين ، وظاهره العموم والمراد الخصوص . وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر ؛ إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خرج مبادرا يريد عيرا لقريش ، فلم يظنوا حربا ، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة ، فتمنوا لقاء العدو ليكون لهم يوم كيوم بدر ، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد . فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظانا أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : قتلت محمدا ، وصرخ بذلك صارخ ، وفشا ذلك في الناس ، انكفوا فارين ، فدعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إلي عباد الله " حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين : أتانا خبر قتلك ، فرعبت قلوبنا ، فولينا مدبرين . فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت . وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت ؛ إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت ، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت . ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنيا لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود ، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة ؛ لما فيها من الكرامة عند الله . وأنشد عبد الله بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم : ردكم الله تعالى فقال :


لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا




حتى يقولوا إذا مروا على جدثي     أرشده الله من غاز وقد رشدا



( من قبل أن تلقوه ) أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه . وضمير المفعول في تلقوه عائد على الموت ، وقيل : على العدو ، وأضمر لدلالة الكلام عليه . والأول أظهر ؛ لأنه يعود على مذكور . وقرأ النخعي والزهري : تلاقوه ، ومعناها ومعنى تلقوه سواء من حيث إن معنى لقي يتضمن أنه من اثنين ، وإن لم يكن على وزن فاعل . وقرأ مجاهد " من قبل " بضم اللام مقطوعا عن الإضافة ، فيكون موضع أن تلقوه نصبا على أنه بدل اشتمال من الموت . " فقد رأيتموه " أي عاينتم أسبابه وهي الحرب المستعرة كما قال :


لقـد رأيت المـوت قبل ذوقــه



وقال :


ووجدت ريح الموت من تلقائهم     في مأزق والخيل لم تتبدد



وقيل : معنى الرؤية هنا العلم ، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي : فقد علمتم الموت حاضرا ، وحذف لدلالة المعنى عليه . وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جدا ؛ ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين . وقرأ طلحة بن مصرف : " فلقد رأيتموه " باللام . " وأنتم تنظرون " جملة حالية للتأكيد ، ورفع ما يحتمله " رأيتموه " من المجاز ، أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين ، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم ، وشارفتم أن تقتلوا ، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية ، وهذا قول الأخفش ، وهو الظاهر . وقيل : وأنتم بصراء ، أي ليس بأعينكم علة . ويرجع معناه إلى القول الأول ، وقاله الزجاج والأخفش أيضا . وقيل : تنظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وما فعل به . وقيل : تنظرون نظر تأمل بعد الرؤية . وقيل : تنظرون في أسباب النجاة والفرار ، وفي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل قتل أم لا ؟ وقيل : تنظرون ما تمنيتم ، وهو عائد على الموت . [ ص: 68 ] وقيل : تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب ، هل وفيتم أو خالفتم ؟ فعلى هذا المعنى لا تكون جملة حالية ، بل هي جملة مستأنفة الإخبار أتى بها على سبيل التوبيخ . فكأنه قيل : وأنتم حسباء أنفسكم فتأملوا قبح فعلكم . وهذه الآية وإن كانت صيغتها صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد ، وفيها محذوف أخيرا بعد قوله : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب ، أن متعلق تمنيكم نكصتم عنه ، وقال ابن الأنباري : يقال : إن معنى رأيتموه قابلتموه وأنتم تنظرون بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما ؛ لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة ، والثاني بمعنى رؤية العين . انتهى . ويكون إذ ذاك ، وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة ، إلا أن المشهور في اللغة أن الرؤية هي الإبصار ، لا المقابلة والمواجهة .

التالي السابق


الخدمات العلمية