الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) تقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة البقرة . ومعنى ( لآيات ) لعلامات واضحة على الصانع وباهر حكمته ، ولا يظهر ذلك إلا لذوي العقول ينظرون في ذلك بطريق الفكر والاستدلال ، لا كما تنظر البهائم . وروى ابن جبير عن ابن عباس أن قريشا قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، حين ذكرت اليهود والنصارى لهم بعض ما جاء به من المعجزات موسى و عيسى عليهما السلام ، فنزلت هذه الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ؛ لأنه تعالى لما ذكر أنه مالك السماوات والأرض ، وذكر قدرته ، ذكر أن في خلقهما دلالات واضحة لذوي العقول .

( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) الظاهر أن الذكر هو باللسان مع حضور القلب ، وأنه التحميد والتهليل والتكبير ، ونحو ذلك من الأذكار . هذه الهيئات الثلاثة هي غالب ما يكون عليها المرء ، فاستعملت ، والمراد بها جميع الأحوال . كما قالت عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ) وظاهر هذا الحديث والآية يدل على جواز ذكر الله على الخلاء . وقال بجواز ذلك : عبد الله بن عمر ، و ابن سيرين والنخعي . وكرهه : ابن عباس ، و عطاء ، و الشعبي . وعن ابن عمر و عروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : قياما وقعودا ؟ فقاموا يذكرون الله على أقدامهم .

وروي في الحديث : ( من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ) ، وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه - ذهب ابن جريج والجمهور ، والذكر من أعظم العبادات ، والأحاديث فيه كثيرة . وقال ابن عباس وجماعة : المراد بالذكر الصلوات ، ففي حال [ ص: 139 ] العذر يصلونها قعودا وعلى جنوبهم ، وسماها ذكرا لاشتمالها على الذكر . وقيل : المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء . وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع ، وخلاف الفقهاء في ذلك ، ودلائلهم . وذلك مقرر في علم الفقه . وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود ، والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ؛ لأن الإنسان لا يقعد غالبا إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها . ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع ، والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ؛ لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل . ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زمانا ، فبدئ بالقيام ؛ لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود ، ألا ترى أن الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار ؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة . فمن قدر على القيام لا يصلي قاعدا ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعا ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائما ثم قاعدا ثم مضطجعا . وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون الله قياما بأوامره ، وقعودا عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه . وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية .

وجوزوا في ( الذين ) : النعت ، والقطع للرفع ، والنصب ، ( وعلى جنوبهم ) حال معطوفة على حال ، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم . وفي قوله : دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما عطف صريح الاسم على المجرور .

( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) الظاهر أنه معطوف على الصلة ، فلا موضع له من الإعراب . وقيل : الجملة في موضع نصب على الحال ، عطفت على الحال قبلها . ولما ذكر الذكر الذي محله اللسان ، ذكر الفكر الذي محله القلب . ويحتمل ( خلق ) أن يراد به المصدر ، فإن الفكرة في الخلق لهذه المصنوعات الغريبة الشكل والقدرة على إنشاء هذه من العدم الصرف ، يدل على القدرة التامة والعلم والأحدية إلى سائر الصفات العلية . وفي الفكر في ذلك ما يبهر العقول ، ويستغرق الخواطر . ويحتمل أن يراد به المخلوق ، ويكون أضافه من حيث المعنى إلى الظرفين ، لا إلى المفعول . والفكر فيما أودع الله في السماوات من الكواكب النيرة والأفلاك التي جاء النصر فيها وما أودع في الأرض من الحيوانات والنبات والمعادن ، واختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها أيضا - يبهر العقل ويكثر العبر .


وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد



ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : ( تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره ) . وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس ؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء . وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي مخلوق الآخرة . وفي الحديث : ( لا عبادة كتفكر ) . وذكر المفسرون من كلام الناس في التفكر ومن أعيان المتفكرين كثيرا ، رأينا أن لا نطول كتابنا بنقلها ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره : يقولون . وهذا الفعل في موضع نصب على الحال ، والإشارة بهذا إلى الخلق إن كان المراد المخلوق ، أو إلى السماوات والأرض ؛ لأنها في معنى المخلوق . أي : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا . قيل : المعنى : خلقا باطلا ، أي : لغير غاية ، بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه ، فيوحد ويعبد . فمن فعل ذلك نعمته ، ومن ضل عن ذلك عذبته . وقال الزمخشري : المعنى ما خلقته خلقا باطلا بغير حكمة [ ص: 140 ] بل خلقته لداعي حكمة عظيمة وهو : أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك . ولذلك وصل به قوله : فقنا عذاب النار ، ولأنه جزاء من عصى ولم يطع . انتهى . وفيه إشارات المعتزلة من قوله : بل خلقته لداعي حكمة عظيمة ، وعلى هذا فيكون انتصاب ( باطلا ) على أنه نعت لمصدر محذوف . وقيل : انتصب ( باطلا ) على الحال من المفعول . وقيل : انتصب على إسقاط الباء ، أي بباطل ، بل خلقته بقدرتك التي هي حق . وقيل : على إسقاط اللام وهو مفعول من أجله ، وفاعل بمعنى المصدر أي بطولا . وقيل : على أنه مفعول ثان لخلق ، وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى اثنين ، وهذا عكس المنقول في النحو ، وهو : أن ( جعل ) يكون بمعنى ( خلق ) ، فيتعدى لواحد . أما أن خلق يكون بمعنى جعل فيتعدى لاثنين ، فلا أعلم أحدا ممن له معرفة ذهب إلى ذلك . والباطل : الزائل الذاهب ، ومنه :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل



والأحسن من أعاريبه انتصابه على الحال من هذا ، وهي حال لا يستغنى عنها ، نحو قوله : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ) لا يجوز في هذه الحال أن تحذف لئلا يكون المعنى على النفي ، وهو لا يجوز .

ولما تضمنت هذه الجملة الإقرار بأن هذا الخلق البديع لم يكن باطلا ، والتنبيه على أن هذا كلام أولي الألباب الذاكرين الله على جميع أحوالهم والمتفكرين في الخلق ، دل على أن غيرهم من أهل الغفلة والجهالة يذهبون إلى خلاف هذه المقالة ، فنزهوه تعالى عن ما يقول أولئك المبطلون من ما أشار إليه تعالى في قوله : لاعبين ، وفي قوله : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) واعترض بهذا التنزيه المتضمن براءة الله من جميع النقائص وأفعال المحدثين بين ذلك الإقرار وبين رغبتهم إلى ربهم بأن يقيهم عذاب النار ، ولم يكن لهم هم في شيء من أحوال الدنيا ، ولا اكتراث بها ، إنما تضرعوا في سؤال وقايتهم العذاب يوم القيامة . وهذا السؤال هو نتيجة الذكر والفكر والإقرار والتنزيه . والفاء في : فقنا للعطف ، وترتيب السؤال على الإقرار المذكور . وقيل : لترتيب السؤال على ما تضمنه سبحان من الفعل ، أي : نزهناك عما يقول الجاهلون فقنا . وأبعد من ذهب إلى أنه للترتيب على ما تضمن النداء .

التالي السابق


الخدمات العلمية