الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) لما ذكر تعالى صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب ، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج . والخوف هنا قيل : معناه اليقين ، ذهب في ذلك إلى أن الأوامر التي بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه ، واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي الله عنه :


ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها



وقيل الخوف على بابه من بعض الظن . قال :


أتاني كلام من نصيب يقوله     وما خفت يا سلام أنك عاتبي



أي : وما ظننت . وفي الحديث : ( أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن ) وقيل : الخوف على بابه من ضد الأمن ، فالمعنى : يحذرون ويتوقعون ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف . والنشوز : أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها ، ويقال : نسور بالسين والراء المهملتين ، ويقال : نصور ، ويقال : نشوص . وامرأة ناشر وناشص . قال الأعشى :


تجللها شيخ عشاء فأصبحت     قضاعية تأتي الكواهن ناشصا



قال ابن عباس : نشوزهن عصيانهن . وقال عطاء : نشوزها أن لا تتعطر ، وتمنعه من نفسها ، وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها . وقال أبو منصور : نشوزها كراهيتها للزوج . وقيل : امتناعها من المقام معه في بيته ، وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه . وقيل : منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك . وهذه الأقوال كلها متقاربة .

ووعظهن : تذكيرهن أمر الله بطاعة الزوج ، وتعريفهن أن الله أباح ضربهن عند عصيانهن ، وعقاب الله لهن على العصيان قاله : ابن عباس . وقال مجاهد : يقول لها : اتقي الله ، وارجعي إلى فراشك . وقيل : يقول لها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب ) . وقال : ( أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) وزاد آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطا وإمام قوم هم له كارهون ) .

وهجرهن في المضاجع : تركهن لكراهة في المراقد . والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب . وأصل الاضطجاع الاستلقاء ، يقال : ضجع ضجوعا واضطجع استلقى للنوم ، وأضجعته أملته إلى الأرض ، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته . قال ابن عباس وابن جبير : معناه لا تجامعوهن . وقال الضحاك والسدي : اتركوا كلامهن ، وولوهن ظهوركم في الفراش . وقال مجاهد : فارقوهن في الفرش ، أي ناموا ناحية في فرش غير فرشهن . وقال عكرمة والحسن : قولوا لهن في المضاجع هجرا ، أي كلاما غليظا . وقيل : اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فما دونها . وكنى بالمضاجع عن البيوت ، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلا للاضطجاع . وقال النخعي ، و الشعبي ، والسدي ، والحسن : من الهجران ، وهو البعد ، وقيل : اهجروهن بترك الجماع والاجتماع ، وإظهار التجهم ، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهر كما فعل عليه السلام ( حين حلف أن لا يدخل على نسائه شهرا ) وقيل : اربطوهن بالهجار ، وأكرهوهن على الجماع ؛ من قولهم : هجر البعير إذا شده بالهجار ، وهو حبل يشد به البعير ، قاله : الطبري ورجحه . وقدح [ ص: 242 ] في سائر الأقوال . وقال الزمخشري في قول الطبري : وهذا من تفسير الثقلاء انتهى . وقيل في للسبب : أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش . وقرأ الأعمش والنخعي : في المضجع على الأفراد وفيه معنى الجمع ، لأنه اسم جنس .

وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك ، كما جاء في الحديث . قال ابن عباس : بالسواك ونحوه . والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظما ، ولا يتلف عضوا ، ولا يعقب شيئا ، والناهك البالغ ، وليجتنب الوجه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : ( علق سوطك حيث يراه أهلك ) وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير ، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها . وهذا يخالف قول ابن عباس ، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك : أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضراتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، ثم ضربهما ضربا شديدا ، وكانت الضرة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي الضرب ، فكان الضرب بها أكثر ، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال : يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة .

وظاهر الآية يدل : على أنه يعظ ، ويهجر في المضجع ، ويضرب التي يخاف نشوزها . ويجمع بينها ، ويبدأ بما شاء ، لأن الواو لا ترتب . وقال بهذا قوم ، وقال الجمهور : الوعظ عند خوف النشوز ، والضرب عند ظهوره . وقالابن عطية : هذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها . وقال الزمخشري : أمر بوعظهن أولا ، ثم بهجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران . وقال الرازي ما ملخصه : يبدأ بلين القول في الوعظ ، فإن لم يفد فبخشنه ، ثم يترك مضاجعتها ، ثم بالإعراض عنها كلية ، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة ، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم ، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل ، وأكرهها على الوطء ، لأن ذلك حقه . وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله : ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ) . انتهى . وقوله : فإن أطعنكم أي : وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم . يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز ، وأن النشوز منهن كان واقعا ، فإذا ليس الأمر مرتبا على خوف النشوز . وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز ، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن . والأحسن عندي أن يكون ثم معطوف حذف لفهم المعنى واقتضائه له ، وتقديره : واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن . كما حذف في قوله : ( اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ) تقديره فضرب فانفجرت ، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر ، إنما هو متسبب عن الضرب . فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به . والمحذوف : أمر بالوعظ عند خوف النشوز ، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز .

ومعنى فلا تبغوا : فلا تطلبوا عليهن سبيلا من السبل الثلاثة المباحة ، وهي : الوعظ ، والهجر ، والضرب . وقال سفيان : معناه لا تكلفوهن ما ليس في قدرتهن من الميل والمحبة ، فإن ذلك إلى الله . وقيل : يحتمل أن يكون تبعوا من البغي وهو الظلم ، والمعنى : فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق . وانتصاب سبيلا على هذا هو على إسقاط الخافض . وقيل : المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلا بذلك إلى نشوزهن أي : إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها . ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى . و سبيلا نكرة في سياق النفي ، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل .

التالي السابق


الخدمات العلمية