الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ) قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون ، وقالوا : غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سببا لأمنهم وثباتهم . وعرى منه أهل النفاق والشك ، فكان سببا لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم . انتهى .

ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي ، أي مما أهم به أو قصد . وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم . فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم . فقال قتادة والربيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري ، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي . وقال بعض المفسرين : هو من هم بالشيء ، أراد فعله . والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين . وهذا القول من قال : قد قتل محمد ، فلنرجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا من الأقوال . وقال الزمخشري في قوله : " قد أهمتهم أنفسهم " ، ما بهم إلا هم أنفسهم ، لا هم الدين ، ولا هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين . انتهى . فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي . والمعنى : أهمهم خلاص أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذهب ويزول .

ومعنى " ظن الجاهلية " عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال : ( حمية الجاهلية ) ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية ) وكما تقول : شعر الجاهلية . وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأسا دهاقا . وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول قتادة والطبري . قال مقاتل : ظنوا أن أمره مضمحل . وقال الزجاج : إن مدته قد انقضت . وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد قتل . وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوات والشرائع . وقيل : يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة . وقيل : يظنون أن الحق ما عليه الكفار ؛ فلذلك نصروا . وقيل : كذبوا بالقدر . قال الزمخشري : وظن الجاهلية كقولك : حاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية . ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله . انتهى . وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام ؟ فقيل : سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدو شيء ، أي نصيب ؟ وأجيبوا بقوله : ( قل إن الأمر كله لله ) وهو النصر والغلبة . " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " " وإن جندنا لهم الغالبون " . وقيل : المعنى ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين . وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبي ابن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا . وهذا منهم قول بأجلين . وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد . ويضعف هذا التأويل [ ص: 88 ] الرد عليهم بقوله : قل ، فافهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد .

وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي . ولما أكد في كلامهم بزيادة " من " في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكدا بأن ، وبولغ في توكيد العموم بقوله : كله لله ، فكان الجواب أبلغ .

والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف . والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ؛ لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله لله . ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ؛ لأن من نفى عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إن قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ، فيمكن أن يكون ذلك جوابا لهذا المقدر . وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر الله بها عنهم .

والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال . وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره . وجاز الابتداء بالنكرة هنا ؛ إذ فيه مسوغان : أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا ، وقال الشاعر :


سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوؤه كل شارق



والمسوغ الثاني : أن الموضع موضع تفصيل ؛ إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم يناموا ، فصار نظير قوله :


إذا ما بكى من خلفها انصرفت له     بشق وشق عندنا لم يحول



ونصب " طائفة " على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز . ويجوز أن يكون " قد أهمتهم " في موضع الصفة ، و " يظنون " الخبر . ويجوز أن يكون الخبر محذوفا ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة . ويجوز أن يكون يظنون حالا من الضمير في " أهمتهم " ، وانتصاب " غير الحق " . قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول لتظنون ، أي أمرا غير الحق ، وبالله الثاني . وقال الزمخشري : " غير الحق " في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله ظن الجاهلية ، و " غير الحق " تأكيد ليظنون كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك . انتهى . فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد . وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيدا . وقد نص النحويون على هذا . وعليه :


فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج     سراتهم في السائري المسرد



أي اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدجج . وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظنا مثل ظن الجاهلية . ويجوز في " يقولون " أن يكون صفة ، أو حالا من الضمير في يظنون ، أو خبرا بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده . و " من شيء " في موضع مبتدأ ؛ إذ " من " زائدة ، وخبره في " لنا " ، و " من الأمر " في موضع الحال ؛ لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتا له ، فيتعلق بمحذوف . وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة ، كقوله تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد ) وهذا لا يجوز ; لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر ، وتقديره : أعني لنا هو جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة ، وذلك لا يجوز . وأما تمثيله بقوله : " ولم يكن له كفوا أحد " فهما لا سواء ، لأن له معمول لكفوا ، وليس تبيينا ، فيكون عامله مقدرا ، والمعنى : ولم يكن أحد كفوا له ، أي مكافيا له ، فصار نظير لم يكن له ضاربا لعمرو ، فقوله : لعمرو ليس تبيينا ، بل معمولا لضارب . وقرأ الجمهور " كله " بالنصب تأكيدا للأمر . وقرأ أبو عمرو : " كله " على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيدا للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو الجرمي ، والزجاج ، والفراء . قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة الجمهور ؛ لأن التأكيد أملك بلفظة " كل " . انتهى . ولا ترجيح ؛ إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان [ ص: 89 ] العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية