الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى ، ارتقى في النهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال ، وهو أكل أموال اليتامى ، فنهوا عنه . ومعنى إلى أموالكم قيل : مع أموالكم ، وقيل : ( إلى ) في موضع الحال ، التقدير : مضمومة إلى أموالكم . وقيل : تتعلق بـ ( تأكلوا ) على معنى التضمين ، أي : ولا تضموا أموالهم في الأكل إلى أموالكم . وحكمة ( إلى أموالكم ) ، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق ، أنه تنبيه على غنى الأولياء . كأنه قيل : ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال ، أي : مع غناكم ؛ لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيرا أن يأكل بالمعروف . وهذا نص على النهي عن الأكل ، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه .

وقال مجاهد : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها ، فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى : ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) . وقال الحسن قريبا من هذا .

قال : تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط ، فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة . وحسن هذا القول الزمخشري بقوله : وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم ؛ قلة مبالاة بما لا يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال . قال : فإن قلت قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق . ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ؛ ليكون أزجر لهم . انتهى كلامه . وملخصه : أن قوله : إلى أموالكم ليس قيدا للاحتراز ، إنما جيء به لتقبيح فعلهم ، ولأن يكون نهيا عن الواقع ، فيكون نظير قوله : ( أضعافا مضاعفة ) وإن كان الربا على سائر أحواله منهيا عنه . وما قدمناه نحن يكون ذلك قيدا للاحتراز ، فإنه إذا كان [ ص: 161 ] الولي فقيرا جاز أن يأكل بالمعروف ، فيكون النهي منسحبا على أكل مال اليتيم لمن كان غنيا كقوله : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) .

( إنه كان حوبا كبيرا ) قرأ الجمهور بضم الحاء ، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم ، وبعض القراء : ( إنه كان حابا كبيرا ) ، وكلها مصادر . قال ابن عباس والحسن وغيرهما : الحوب الإثم . وقيل : الظلم . وقيل : الوحشة . والضمير في ( إنه ) عائد على الأكل . وقيل : على التبدل . وعوده على الأكل أقرب لقربه منه ، ويجوز أن يعود عليهما . كأنه قيل : إن ذلك كما قال :


فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق



أي كأن ذلك ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت : نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم ، فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولايتهم عليهن . قيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يماكسن في حقوقهن . وقاله أيضا ربيعة . وقال عكرمة : نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه ، فقيل له : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا . وقال ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي : كانت العرب تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء ، يتزوجون العشرة فأكثر ، فنزلت في ذلك ، كما تخافون ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء ، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه . وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه ، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا ، وانكحوا على ما حد لكم . وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور ، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصا بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء .

والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن ، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم ، ونهوا عن الاستبدال المذكور ، وعن أكل أموال اليتامى ، كان في ذلك مزيد اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) [ ص: 162 ] فخوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى أي : في نكاح يتامى النساء ، فانكحوا غيرهن ، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى . فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن .

وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ ، وقال : أما بعد البلوغ فليست يتيمة ، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها . خلافا لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا : لا يجوز ، وإن كان المراد اليتم اللغوي ، فيندرج فيه البالغات ، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت ، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها ؟ والجواب : أن العدول إنما كان لأن الولي يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته ، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ . ومعنى : ( خفتم ) حذرتم ، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر . وقال أبو عبيدة : معنى خفتم هنا : أيقنتم ، وخاف تكون بمعنى أيقن ، ودليله قول الشاعر :


فقلت لهم خافوا بألفي مدجج

وما قاله لا يصح ، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن ، وإنما خاف من أفعال التوقع ، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين . وقد روي ذلك البيت : فقلت لهم : ظنوا بألفي مدجج . هذه الرواية أشهر من خافوا . قال الراغب : الخوف يقال فيما فيه رجاء ما ، ولهذا لا يقال : خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء ، أو نسف الجبال ، انتهى .

ومعنى ( ألا تقسطوا ) أي : ألا تعدلوا . أي : وإن خفتم الجور ، وأقسط : بمعنى عدل . وقرأ النخعي وابن وثاب : ( تقسطوا ) بفتح التاء من قسط ، والمشهور في ( قسط ) أنه بمعنى ( جار ) . وقال الزجاج : ويقال قسط بمعنى أقسط ، أي : عدل . فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت ( لا ) زائدة ، أي : وإن خفتم أن تقسطوا ، أي : أن تجوروا ؛ لأن المعنى لا يتم إلا باعتقاد زيادتها . وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا ، كانت للنفي كما في تقسطوا .

وقرأ ابن أبي عبلة : ( من طاب ) . وقرأ الجمهور : ما طاب . فقيل : ( ما ) بمعنى ( من ) ، وهذا مذهب من يجوز وقوع ( ما ) على آحاد العقلاء ، وهو مذهب مرجوح . وقيل : عبر بـ ( ما ) عن النساء ، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء . وقيل : ( ما ) واقعة على النوع ، أي : فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء ، وهذا قول أصحابنا : أن ( ما ) تقع على أنواع من يعقل . وقال أبو العباس : ( ما ) لتعميم الجنس على المبالغة ، وكأن هذا القول هو القول الذي قبله . وقيل : ( ما ) مصدرية ، والمصدر مقدر باسم الفاعل . والمعنى : فانكحوا النكاح الذي طاب لكم . وقيل : ( ما ) نكرة موصوفة ، أي : فانكحوا جنسا أو عددا يطيب لكم . وقيل : ( ما ) ظرفية مصدرية ، أي : مدة طيب النكاح لكم . والظاهر أن ( ما ) مفعولة بقوله : فانكحوا ، وأن ( من النساء ) معناه : من البالغات . و ( من ) فيه إما لبيان الجنس ؛ للإبهام الذي في ( ما ) على مذهب من يثبت لها هذا المعنى ، وإما للتبعيض وتتعلق بمحذوف ، أي : كائنا من النساء ، ويكون في موضع الحال . وأما إذا كانت ( ما ) مصدرية أو ظرفية فمفعول ( فانكحوا ) هو ( من النساء ) ، كما تقول : أكلت من الرغيف ، والتقدير فيه : شيئا من الرغيف . ولا يجوز أن يكون مفعول ( فانكحوا ) مثنى ؛ لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات .

وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش : ( طاب ) بالإمالة . وفي مصحف أبي : ( طيب ) بالياء ، وهو دليل الإمالة . وظاهر فانكحوا الوجوب ، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره . وقال غيرهم : هو ندب لقوم ، وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة مندوب إليه . ومعنى ما طاب أي : ما حل ، لأن المحرمات من النساء كثير ، قاله الحسن وابن جبير وأبو مالك . وقيل : ما استطابته النفس ومال إليه القلب . قالوا : ولا يتناول قوله فانكحوا [ ص: 163 ] العبيد .

ولما كان قوله : ما طاب لكم من النساء عاما في الأعداد كلها ، خص ذلك بقوله : مثنى وثلاث ورباع . فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أن لنا أن نتزوج اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة ، ولا ما بعد ذلك من الأعداد . وذلك كما تقول : أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره . فلا يجوز لنا أن نعطي أحدا من المقسوم عليهم خمسة خمسة ، ولا يسوغ دخول ( أو ) هنا مكان الواو ، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور ، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، لأن ( أو ) لأحد الشيئين أو الأشياء . والواو تدل على مطلق الجمع ، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها محظورا عليهم ما زاد . وذهب بعض الشيعة : إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد ، كما يجوز التسري بلا عدد . وليست الآية تدل على توقيت في العدد ، بل تدل على الإباحة كقولك : تناول ما أحببت واحدا واثنين وثلاثا . وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين ، ولا يقتضي الاقتصار عليه . وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع ؛ لأن الواو تقتضي الجمع . فمعنى ( مثنى وثلاث ورباع ) اثنين وثلاثا وأربعا ، وذلك تسع ، وأكد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع . وذهب بعضهم إلى أن هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدل على جواز نكاح ثمانية عشر ، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين ، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر . والكلام على هذه الأقوال استدلالا وإبطالا - مذكور في كتب الفقه الخلافية .

التالي السابق


الخدمات العلمية