الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في الطاعة .

ومن أراد أن تترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته فإن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فأمره مخطر ولكن الرجاء غير منقطع ، والعفو من كرم الله منتظر ، فعسى الله تعالى أن يغفر له بجوده وكرمه فهذا ما انكشف للناظرين بنور البصيرة فإن لم تكن من أهله فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله واقتبسه بنور الإيمان فقد قال الله تعالى لأقرب عباده إليه ، وأرفعهم درجة لديه إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا وقال تعالى: واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا وقال تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود وقال سبحانه : وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم وقال تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا وقال تعالى ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وقال عز وجل : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ثم انظر كيف وصف الفائزين من عباده وبماذا ، وصفهم ، فقال تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا وقال عز وجل: والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقال عز وجل : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وقال عز وجل : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وقال تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فهذا كله يبين لك أن الطريق إلى الله تعالى مراقبة الأوقات وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله تعالى وقد قال تعالى : الشمس والقمر بحسبان وقال تعالى : ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وقال تعالى : والقمر قدرناه منازل وقال تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر فلا تظنن أن المقصود من سير الشمس والقمر بحسبان منظوم مرتب ومن خلق الظل والنور والنجوم أن يستعان بها على أمور الدنيا بل لتعرف بها مقادير الأوقات فتشتغل فيها بالطاعات والتجارة للدار الآخرة يدلك عليه قوله تعالى : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا أي يخلف أحدهما الآخر ليتدارك في أحدهما ما فات في الآخر وبين أن ذلك للذكر والشكر لا غير وقال تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وإنما الفضل المبتغى هو الثواب والمغفرة ونسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه .

التالي السابق


( فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته) كلها ( في الطاعة) التي تقربه إلى الله زلفى ( ومن أراد أن تترجح كفة حسناته) على كفة سيئاته، وللميزان كفتان توزن فيهما الأعمال ( وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته) استيعابا وافيا ( فإن خلط عملا صالحا وآخر سيئا) بحيث كانا متعادلين ( فأمره مخطر) أي: ذو خطر ( ولكن الرجاء) من الله ( غير منقطع، والعفو من كرم الله) وعفوه ( منتظر، فعسى الله تعالى أن يغفر له بجوده وكرمه) ومنه وفضله، كما هو شأن الكريم المتفضل الجواد ( فهذا) الذي ذكر هو ( ما ينكشف للناظرين) إلى الأشياء ( بنور البصيرة) المنورة بنور القدس ( وإن لم تكن من أهله) أي: من أهل نور البصيرة .

( فانظر إلى خطاب الله -عز وجل- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- واقتبسه [ ص: 123 ] بنور الإيمان) ثم اعتبر به ( فقد قال تعالى لأقرب عباده إليه، وأرفعهم درجة لديه) بأنواع التخصيص والمواهب والتقريب: ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) أي: تقلبا في مهامك، واشتغالا بها، فعليك بالتهجد؛ فإن مناجاة الحق يستدعي فراغا، وقرئ: "سبخا" بالخاء المعجمة، أي: تفرق قلب بالشواغل، مستعار من سبخ الصوف، وهو نفشه وتفشي أجزائه، كذا قاله البيضاوي .

( وقال تعالى: وسبح بحمد ربك ) أي: وصل وأنت حامدا لربك، معترفا بأنه مولى النعم كلها ( قبل طلوع الشمس ) يعني: الفجر ( وقبل الغروب ) يعني: الظهر والعصر؛ لأنهما في آخر النهار، أو العصر وحده ( ومن الليل فسبحه ) فإن العبادة فيه أشق على النفس، وأبعد عن الرياء؛ ولذلك أفرده بالذكر، وقدمه على الفعل ( وأدبار السجود ) أي: أعقابه .

( وقال تعالى: وسبح بحمد ربك حين تقوم ) من أي مكان قمت، أو من مكانك، أو إلى الصلاة ( ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) أي: إذا أدبرت النجوم من آخر الليل، وقرئ بالفتح، أي: في أعقابها ( وقال تعالى: إن ناشئة الليل ) : أي: ساعات الليل؛ لأنها تحدث واحدة بعد أخرى، أو ساعتها الأول، من نشأت إذا ابتدأت، أو المراد النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أو قيام الليل على أن الناشئة له، أو العبادة التي تنشأ بالليل أي: تحدث ( هي أشد وطئا ) بفتح فسكون، أي: كلفة، أو ثبات قدم، وقرئ: "وطاء" ككتاب، أي: مواطأة القلب اللسان لها أو فيها، أو موافقة لما يراد من الخضوع والإخلاص ( وأقوم قيلا) أي: أشد مقالا، أو أثبت قراءة؛ لحضور القلب وهدو الأصوات .

( وقال تعالى) : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ( ومن آناء الليل ) أي: من ساعاته، جمع "إنى" بالكسر والقصر ( فسبح ) يعني المغرب والعشاء، وإنما قدم الزمان فيه لاختصاصه بمزيد الفضل؛ فإن القلب فيه أجمع، والنفس أميل إلى الاستراحة، فكانت العبادة فيه أحمز ( وأطراف النهار ) تكرير صلاتي الصبح والمغرب إرادة الاختصاص، ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، أو أمر بصلاة الظهر فإنها نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير، وجمعه باعتبار النصفين، أو لأن النهار جنس، أو بالتطوع في آخر الليل .

( لعلك ترضى) متعلق بـ وسبح أي: سبح في هذه الأوقات؛ طمعا أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك، وقرئ بالبناء للمفعول، أي: يرضيك .

( وقال تعالى: وأقم الصلاة طرفي النهار ) يعني: صلاة الصبح وصلاة المغرب ( وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ثم انظر كيف وصف الفائزين) بما عنده من الثواب ( من عباده وبماذا، وصفهم، فقال -عز وجل-: أمن هو قانت ) أي: قائم في الصلاة، ومنه خبر: "أفضل الصلاة طول القنوت" أو ثابت على قيامه فيها؛ تحققا بتمكنه فيه، أو ملازم الطاعة مع الخضوع ( آناء الليل) أي: ساعاته ( ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) تقدم الكلام عليه في أول كتاب العلم ( إنما يتذكر أولو الألباب ) أي: العقول الراجحة .

( وقال تعالى: والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ) جمعا ساجد وقائم، أي: ساجدين وقائمين ( وقال تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا وقال تعالى: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وقال -عز وجل-: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) أي: هو إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى، والثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته، أو دلالة على أن ما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزيهه واستحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهل السماوات والأرض، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح؛ لأن آثار القدرة والعظمة فيها أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي الذي هو آخر النهار، والظهيرة التي هي وسطه؛ لأن تجدد النعم فيها أكثر، ويجوز أن يكون عشيا معطوفا على حين تمسون وقوله: وله الحمد في السماوات والأرض اعتراضا .

ويروى عن ابن عباس أنه قال: "إن الآية جامعة للصلوات الخمس: تمسون صلاتا المغرب والعشاء، و تصبحون صلاة الفجر و وعشيا صلاة العصر و تظهرون صلاة الصلاة الظهر؛ ولذلك زعم الحسن أنها مدنية؛ لأنه كان يقول: كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقتا، وإنما فرضت الخمس بالمدينة، والأكثر أنها فرضت [ ص: 124 ] بمكة .

( وقال -عز وجل-: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) نزلت في أهل الصفة ( فهذا كله يبين لك أن الطريق إلى الله عز وجل) عبارة عن ( مراقبة الأوقات) أي: محافظتها ( وعمارتها بالأوراد) الشريفة ( على سبيل الدوام) والملازمة ( ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة") أي: يترصدون دخول الأوقات بها ( لذكر الله تعالى) أي: لإقامة ذكره تعالى في الأوقات المعلومة، ولفظ القوت وفي حديث أبي الدرداء وكعب الأحبار في صفة هذه الأمة: "يراعون الظلال لإقامة الصلاة، وأحب عباد الله إلى الله" إلخ .

قال العراقي: رواه الطبراني، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، من حديث ابن أبي أوفى بلفظ: "خيار عباد الله" إلخ .

قلت: روياه بلفظ: "إن خياركم عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله" وقال الهيثمي: رجال الطبراني موثقون، وقال المنذري: رواه ابن شاهين، وقال: انفرد به ابن عيينة، عن مسعر، وهو حديث غريب صحيح، وأقر الذهبي الحاكم على تصحيحه .

وقال البرهان: في المراعاة أمور ظاهرة وأمور باطنة، أما الظاهرة فالرؤية بحاسة البصر في الطلوع والتوسط والغروب والحركة، فإذا تأمله المتأمل ذكر الله وسبحه وحمده ومجده بتحقيق، سيما إذا أطلعه الله على أسرار نتائجها وأفعالها، مما يدل على إحكام القدرة الأزلية في المصنوعات المترتبة على الإنسان. اهـ .

( وقد قال تعالى: الشمس والقمر بحسبان ) أي: يجريان بحسبان معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما، وتشتق بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، وتعلم السنون والحساب .

( وقال -عز وجل-: ألم تر إلى ربك ) أي: ألم تنظر إلى صنعه ( كيف مد الظل ) أي: بسطه، أو: ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك، فغير النظم؛ إشعارا بأن المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوث تصرفه على الوجه النافع بأسباب متمكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي، فكيف بالمحسوس منه؟!

أو: ألم ينته علمك إلى ربك كيف مد الظل فيما بين طلوع الفجر والشمس، وهو أطيب الأحوال، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع، وتسد النظر، وشعاع الشمس يسخن الجو، ويبهر البصر .

( ولو شاء لجعله ساكنا ) أي: ثابتا من السكنى، أو غير متقلص من السكون، بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد ( ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع، فيقع ضوؤها على بعض الأجرام، أو: لا يوجد ولا يتفاوت إلا بسبب حركتها ( ثم قبضناه إلينا ) أي: أزلناه بإيقاع الشعاع موقعه ( قبضا يسيرا ) قليلا قليلا، حسبما ترتقع الشمس؛ لتنتظم بذلك مصالح الكون، ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق .

و"ثم" في الموضعين لتفاضل الأمور، أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها. وقيل: مد الظل لما بنى السماء بلا نير، ودحا الأرض تحتها، فألقت عليها ظلها، ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحال، ثم خلق الشمس دليلا عليه مسلطا مستتبعا إياه، كما يستتبع الدليل المدلول، أو دليلا لطريق من يهديه، فإنه يتفاوت بحركتها ويتحول بتحولها، ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا، شيئا فشيئا، إلى أن ينتهي غاية نقصانه، أو قبضا سهلا عند قيام الساعة بقبض أسبابه من الأجرام المظلة والمظلل عليها .

( وقال -عز وجل-: والقمر قدرناه منازل ) وهي ثمانية وعشرون منزلة، يحل كل ليلة منزلة منها، على ما تقدم بيانها في كتاب العلم ( وقال تعالى: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها ) أي: بسيرها وأفولها وطلوعها في ظلمات البر والبحر ( فلا تظنن) أيها المتأمل المتبصر في آيات الله تعالى ( أن المقصود من سير الشمس والقمر) وحركاتهما ( بحساب منظوم مرتب) ترتيبا غريبا يحير الفهوم ( ومن خلق الظل والنور والنجوم) هو ( أن يستعان بها على حصول) أمر من ( أمور الدنيا) كما عليه عامة من يشتغل بهذه الفنون ( بل) خلقت ( لتعرف بها مقادير الأوقات) في الليل والنهار ( بالطاعات) أي: في تلك الأوقات بالطاعات الإلهية بأنواعها ( و) تحصيل ( التجارة للدار الآخرة) فإن الدنيا فانية ( يدلك على ذلك قول الله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا أي) ذا خلفة ( يخلف أحدهما الآخر) بأن يقوم مقامه ( ليتدارك في أحدهما ما فات في الآخر) من ورد، أو بأن يعتقبا [ ص: 125 ] كقوله: واختلاف الليل والنهار والخلفة للحالة كالركبة والجلسة .

( وبين أن ذلك للذكر والشكر لا غير) والمعنى: ليكونا وقتين للذاكرين والشاكرين ( وقال تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وإنما الفضل المبتغى) أي: المطلوب المشار إليه في الآية ( هو الثواب) من الله عز وجل ( والمغفرة) للذنوب لا تحصيل أمور الدنيا، والاتجار فيها، نسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه .




الخدمات العلمية