الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم ذكر في بعض المواضع الترغيب .

ثم ذكر في بعض المواضع الصدق والإخلاص ، فقال مرة : " من قال : لا إله إلا الله مخلصا ومعنى الإخلاص مساعدة الحال للمقال .

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا في الخاتمة من أهل لا إله إلا الله حالا ومقالا ظاهرا وباطنا ؛ حتى نودع الدنيا غير متلفتين إليها بل متبرمين بها ، ومحبين للقاء الله ؛ فإن " من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " فهذه مرامز إلى معاني الذكر التي لا يمكن الزيادة عليها في علم المعاملة .

التالي السابق


( ثم ذكر ذلك في بعض المواضع) مقيدا ( مع الصدق والإخلاص، فقال مرة: "من قال: لا إله إلا الله مخلصا ) دخل الجنة" تقدم ذكره قريبا في فضيلة التهليل .

( ومعنى الإخلاص مساعدة الحال [ ص: 26 ] للمقال) أي: بأن يكون حاله مساعدا لقاله وقاله موافقا لحاله، وقد جاء في إحدى روايات هذا الحديث زيادة، وهي: "قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن يحتجزه عن محارم الله تعالى" وفي رواية أخرى: "أطاع بها قلبه وذل بها لسانه" أخرجها الطبراني في الأوسط، عن سعد بن عبادة .

وفي أخرى: "لا يريد بها إلا وجهه أدخله الله بها جنات النعيم" أخرجها الطبراني، عن ابن عمر، وهو في معنى الإخلاص .

وروى ابن النجار، عن عقبة بن عامر، عن أبي بكر -رضي الله عنهما-: "من قال: لا إله إلا الله، يصدق لسانه قلبه دخل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء".

( فنسأل الله تعالى أن يجعلنا في الخاتمة من أهل لا إله إلا الله حالا) وذوقا ومشهدا ( ومقالا وظاهرا وباطنا؛ حتى نودع الدنيا) ونتركها ( غير ملتفتين إليها) أي: إلى زخارفها ( بل متبرمين بها، ومحبين للقاء الله عز وجل؛ فإن "من أحب لقاء الله سبحانه أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله -عز وجل- كره الله لقاءه") وهذا قد رواه الطيالسي، وأحمد، والدارمي، والشيخان، والترمذي، والنسائي، عن عائشة. ورواه الشيخان، عن أبي موسى. ورواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة. ورواه النسائي والطبراني عن معاوية.

زاد أحمد والنسائي في حديث أنس: "قالوا يا رسول الله كلنا نكره الموت، قال: ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقى الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر إذا حضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر، فكره لقاء الله تعالى، فكره الله لقاءه" وقد جاءت هذه الزيادة بنحوها في حديث عائشة، عن عبد بن حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، وعند ابن ماجه عن عائشة، وعند أحمد عن رجل من الصحابة .

( فهذه مرامز) ولوامح ( إلى معاني الذكر) مما يمنحها ( لا يمكن الزيادة عليها في علم المعاملة) .



وهذه مسانحات من معاني الذكر نختم بها هذا الباب:

الأولى: السالك إذا تعجل طلب الشهود في هذا الموطن، وعلل همته، واستجلب الفناء، فإنه قد تحصل له منازلات، لكنه في الحقيقة سوء أدب، ويفوته أكثر مما ناله، وتحقيق هذا المقام أن الله -تبارك وتعالى- أوجد العبد، وجعل له هذه الدار دار تكليف، أمره فيها بأوامر، ونهاه عن نواه، فوظيفته إن كان عبدا امتثل ما أمر به، واجتنب ما نهي عنه، ويستعين العبد بربه في طلب التوفيق في الامتثال، وعلى العبد أن يهيئ محله بأن لا يجعل في قلبه ربانية لغير ربه، فهو يجتهد في قطع العلائق التي تؤثر في عبوديته نقصا ما، هذا أهم ما عليه، وقطعه لهذه العلائق هو تهيؤ المحل للقيام بحق الربوبية عنده تكملة وصفه العبودية، هذا شأن العبد .

وأما نتائج ائتماره وعبوديته فلا يليق به طلبها، وذلك راجع إلى ربه تعالى، إن شاء عجله وإن شاء أجله، فإذا قصد تعجيل النتائج في دار التكليف فقد أساء الأدب، وعامل الموطن بما لا تقتضيه حقيقته، فإذا استقام العبد في مقام العبودية، وعجل له الحق نتيجة ما، أو كرامة قبلها، وكانت مطهرة من شوائب حظه. وإن أجل الله تعالى له النتائج رضي عنه سبحانه، واعلم أن الخيرة فيما اختاره الله تعالى. والله أعلم .

الثانية: اعلم أن الدنيا موطن العمل، وتهيئ المحل، والآخرة موطن النتيجة والثواب، فكما أن الآخرة ليست دار عمل فكذلك هذه الدار ليست دار نتائج، فلا يجب على المريد سوى تهيؤ المحل، وأما النتائج فإنها أمامه في الدار الآخرة، ولا يلزم من كون الإنسان لم يكشف له في هذا الموطن؛ لأنه ناقص الاستعداد، وليس له نصيب في هذا الأمر، بل يقال: إنه عند موته تهيأ محله، وكمل استعداده، ولا فرق بين من كوشف ذلك الوقت في ذلك الموطن وبين من كوشف طول عمره، إنما هو تقديم وتأخير، والله أعلم .

الثالثة: قال بعض العارفين: لا تذكرني بذكرك فتحجب عني بك، واذكرني بذكري، وتحقيق هذا أن ذكرك بك هو أن تذكره للتنزيه، أو لمعنى من معاني الذكر، وذكرك به هو أن تذكره لكونه أمرك بالذكر؛ ولهذا اختار العارفون الذكر المفرد؛ لكونه يعطيك معنى تتفرق بسببه؛ ليكون الذكر تعبدا محضا، فمتى سبحته للتنزيه أو هللته لنفي الشريك، وقصدت هذه المعاني المعقولة من ذلك فقد ذكرته به، فتتحقق، والله أعلم .

الرابعة: هذه الأذكار والأوراد التي رتبها المشايخ لمريديهم، وعاهدوهم بها فيما يأخذون به أنفسهم، فاختلف فيه، فمنهم من كره ذلك؛ لأن المريد فيها يبقى بحكم [ ص: 27 ] العادة يمر عليها بالطبع والغفلة، وقلبه في محل آخر، وإذا: لم يتقيد بها. وذكر الله تعالى متى وجد لذلك سبيلا في أي وقت كان بحيث يعقل ذلك بحضور وإقبال فإنه يجد أثره بحضور همته، ووجود عزيمته، خلاف الأول. وأما المعاهدات فلا يأمن متعاطيها وقوع الخيانة، والأحسن به أن يأتي ما يأتي بغير معاهدة، ويفعل الله ما يشاء، والله أعلم .

الخامسة: اعلم أن الفناء في الوصول أعلى؛ لأن معه يصح التوحيد المجرد، ومتى صحبه علمه بأنه موحده، والبقاء في السلوك أعلى؛ لأنه يغني عما سوى المسلوك إليه، وهو في كل قدم يسلكها أعلى مما بعدها، فتحققه بالفناء من غير قدمه التي هو سالكها، فإذا وكل إلى الحق سبحانه فني فيه لا عنه، والله أعلم .

السادسة: ينبغي للسالك أن لا يحكم على الله بشيء ولو بلغ أعلى المراتب وأكملها، وقال له: رضيت عنك رضاي الأكبر، فبعد هذا كله لا يأمنه، بل ينبغي أن يعطي الألوهية حقها، ولينظر إلى الخبر الذي ورد عن جبريل وإسرافيل -عليهما السلام-: "أنهما كانا يبكيان، فقال لهما الحق -وهو أعلم- ما الذي يبكيكما؟ فقالا: خوفا من مكرك، فقال لهما الحق سبحانه: كذلك فكونا" والله أعلم .

السابعة: هل الذاكر يصح له الإقبال على الحاضرين ومكالمتهم، ويكون مع ذلك حاضرا في علم الباطن كحضوره في خلوته؟

فالجواب: لا يصح ذلك لمبتدئ ولا لمنته، ألا ترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد المرسلين كان إذا أتاه الوحي اشتد عليه إلى أن ينقضي ذلك، ثم يسرى عنه، هذا مع كونه كان في خطاب ملكي، فكيف يكون الاستغراق في خطاب الحق، لكن المتمكن سريع الأخذ، فمن اشتغلت عنه وتركت إقباله عليك فلا تعلم أين يكون في وقته ذلك، فحينئذ يأتيه وارده،والله أعلم .

الثامنة: ينبغي للذاكر أن لا يشتغل بمعاني الذكر بل بالذكر، ويجعله معتمده، ولا يعقل معناه ويقول: هذه عبادة أمرت بها، فأنا ممتثل الأمر، فإذا اعتقد الذاكر ذلك كان الذكر يعمل بخاصيته، وما تقتضيه حقيقته، والله أعلم .

التاسعة: الشوق أول منازل السعادة، ولا يحصل إلا بطريق المواهب، ومتى حصل الشوق جذب إلى الفناء عن الأكوان، والله أعلم .

العاشرة: إذا علم المريد من الأحكام ما لا بد له منه فالأولى به الانقطاع إلى الله، ودوام التبتل، إلا أن يكون غير متأبد على الحق الصرف، ونفسه لا تجيبه على الدأب على العمل والذكر، وتنازعه بالفتور ومطالبة البطالة، فعند ذلك يجعل سهم البطالة الاشتغال بشيء من العلم من قبل فروض الكفايات؛ ليكون تبتله عزيمة واشتغاله رخصة، والله أعلم .




الخدمات العلمية